تشهد مؤسسات رعاية الأطفال، منذ عامين، «إقبالاً» غير مسبوق من أسر غير قادرة على توفير هذه الرعاية لأبنائها. التدقيق في الخلفية الاجتماعية لهؤلاء يُظهر أن معظمهم ممن لم يكونوا يُصنّفون سابقاً في خانة الفئات الهشّة
أكثر من 90% من الأطفال في المياتم هم من الفقراء ممن لا قدرة لأهاليهم على رعايتهم. هذا ما خلصت إليه دراسة أعدّتها «مؤسسة البحوث والاستشارات» قبل 16 عاماً (2006) بطلب من وزارة الشؤون الاجتماعيّة عندما كان لبنان في «عزّه». دراسة «أيام العزّ» تلك، أظهرت أن 21 ألف طفل من أصل 23 ألفاً مقيمين في دور الأيتام… ليسوا أيتاماً. وفي دراسة نشرتها «المفكرة القانونية» العام الماضي، تبيّن أن الأيتام «منذ مئة عام لا يشكّلون أكثر من 10% من أطفال المياتم»!
مع تغوّل الأزمة، الأرجح أن هذه الأرقام بدأت بالتغيّر… نحو الأسوأ، إذ تعدّت الضغوط اليومية التي تعاني منها الأسر الحدّ الأدنى من مقوّمات العيش، لتطاول أصل وجودها وتماسكها. وتحوّل الأطفال للكثير من العائلات إلى «نقمة» بدل «نعمة»، وعوض أن «يأتي الولد وتأتي رزقته معه»، أصبح همّ كثيرين من الأهل إرساله إلى حيث «رزقته»، ولو بعيداً عنهم، سعياً لمنحه فرصة لحياة لائقة أكثر.
المديرة الوطنية في «جمعية قرى الأطفال» (SOS) في لبنان، زينا الرويهب، توضح أن الجمعيّة، إضافة إلى رعايتها اليتامى والأطفال المعرّضين لانتهاكات ضمن عائلاتهم قد تعرضهم للخطر (ينضمون إلى قرى SOS بأمر من محكمة الأحداث)، «تملك برنامجاً لدعم الأسرة يهدف إلى منع تفكّك العائلات ودفعها إلى التخلي عن أطفالها». وتوضح أن هذه العائلات «تضم إمّا أحد الوالدين أو كليهما، لكنّ الظروف الاقتصاديّة تحول دون قدرتهم على رعاية الأطفال، فنتولى كجمعية دعم هذه العائلات عبر دفع تكاليف المدارس والطبابة وتقديم الدعم النفسي ومحاولة تأمين فرص عمل للأهل»، لافتة إلى أن «حوالى 800 طفل يستفيدون من هذا البرنامج، وعدد العائلات التي تتقدم للاستفادة منه ترتفع بشكل مطّرد، ولائحة الانتظار طويلة جداً».
وتوضح الرويهب أن برنامج دعم الأسرة انطلق قبل 30 عاماً، «لكن مع نهاية عام 2019 زادت الطلبات على البرنامج بنسب لم نعهدها سابقاً. الحالات التي كنا نستقبلها بعد الحرب تتألف بمعظمها من أرامل فقدن أزواجهن في المعارك، فيما اللافت، منذ عامين، أن غالبية الحالات التي تتقدّم للاستفادة من البرنامج تعود لعائلات لا يزال كلا الوالدين فيها على قيد الحياة، لكنّ قدراتهم المعيشية والاقتصاديّة تدهورت، إما لفقدانهم وظائفهم أو لانهيار القيمة الشرائية لرواتبهم». واللافت أن التدقيق في الخلفية الاجتماعيّة لهذه الأسر «يبيّن أن الكثير منها كانت تنتمي إلى الطبقة المتوسطة سابقاً».السيناريو نفسه ينطبق على «جمعية المبرّات الخيرية» إذ يؤكّد منسق مديرية الشؤون الرعائية في الجمعيّة إبراهيم علاء الدين أن «عدد العائلات التي باتت تقصدنا طلباً للمساعدة في ازدياد كبير»، إذ من ضمن البرامج والخدمات التي توفرها الجمعيّة، «برنامج تمكين الأسرة لدعم العائلات المحتاجة منعاً لفصل الأطفال عن أهاليهم والحفاظ على ترابط الأسرة. لكنّ المؤشرات مقلقة للغاية. فقد ارتفع عدد العائلات المحتاجة في العامين المنصرمين بشكل لافت. والبارز، بحسب متابعتنا، أن غالبية هذه الأسر لم تكن مصنّفة من ضمن الفئات الهشّة سابقاً، لا بل إن غالبيتها كانت تُعدّ من الطبقة المتوسطة». ويؤكّد أن «الحاجات الاجتماعيّة تفوق قدرتنا وقدرة أي جمعيّة أو مؤسسة على التعامل معها. نقدّم الرعاية الشاملة لأكثر من 4 آلاف يتيم ونواكبهم حتى انتهاء تعليمهم الجامعي أو المهني في مؤسساتنا التربوية، ومساهمة وزارة الشؤون الاجتماعيّة لا تزيد على 20% من كلفة المأكل فقط». وهو ما يقلق الجمعيّة من أن «نصل إلى مرحلة نعجز فيها عن استقبال أي حالات إضافية مع وصول قدرتنا الاستيعابية إلى حدّها الأقصى، مع تراجع ملحوظ في المساعدات. فمثلاً، مشروع كفالة اليتيم الذي يشكل رافعة أساسية لرعاية الأيتام في المبرات يعتمد أساساً على التبرعات، لكنّ الظروف القاهرة فرضت على كثيرين التوقف عن دفع المساعدات أو في الحدّ الأدنى تأخير الدفعات على عدة أشهر».