من يتبحّر في خطاب الرئيس سعد الحريري قبل يومين، والذي أعلن فيه “تعليق عمله بالحياة السياسية”، إنّما يمكنه استنباطُ نقاطٍ أساسية لا يمكن تجاهلها أبداً. في الحقيقة، شاءَ الحريري بقرارِه أن يسيرَ عكس التيّار القائم، واضعاً حدوداً جديدة للتعاطي معه تُنافي المسار الذي فُرضَ عليه طوال 17 عاماً.
واقعياً، لا يمكن حصر خطاب رئيس تيار “المستقبل” ضدّ فئة واحدة محددة، حتى وإن ظنّ البعض أن السهام فيه موجّهة ضدّ محور الممانعة. ما يُمكن قوله فعلاً هو أنّ الرسالة التي وُجّهت في الخطاب إنما أخذت طريقاً واحداً باتجاه الحلفاء قبل الخصوم، وهنا بيت القصيد.
خلال فترة مسيرته السياسيّة، كان الحريري يعاني من معضلة أساسية وهي أن جميع حلفائه التاريخيين، أرادوا الاستفادة منه ومن تياره ومن الطائفة السنية. في المقابل، عندما كان الحريري يريدُ أن يصنع شيئاً لنفسه، كان يُقابلُ بالمواجهة، وحتماً هذا ما كان يحصلُ في الكثير من الاستحقاقات.
الفكرةُ هذه يتفق عليها مرجعان سياسيان، الأول من تيار “المستقبل” والثاني من التيار “الوطني الحر” الذي يتضامن كلياً مع الحريري، إذ طلب من مناصريه الالتزام بأقصى الضوابط الوطنية وعدم المساس بالحريري أو المساهمة في إحباط لدى الطائفة السنية.
يقولُ المرجع السياسي البارز في “المستقبل” لـ”لبنان24″ إنّ “الرسالة التي أراد الحريري إسداءها تتوجه إلى حلفائه لأنهم لم يتركوا له مجالاً بالتقدم نحو الأمام”، وأضاف: “كل الحلفاء يريدون الحريري معهم في الانتخابات. يحتاجون لأصواته ولماكيناته الانتخابية، ويعتبرون أنه رافعة لهم. وعليه، يعمدون إلى التمسك به من أجل المصلحة وبعدها يتنصّلون منه”.
وتابع: “نعم، كان الحريري واضحاً في وضعه حداً لهؤلاء، إذ لم يكن باستطاعته تقبّل الواقع الذي وصل إليه معهم. يريدون بقاءه ليس لأنهم يحبونه أو يؤيدون خطّه، بل لأنه ينفعهم ويخدمهم انتخابياً وسياسياً. أما اليوم، فليعملوا منفردين، والاستحقاقات القادمة ستُبيّن الأوزان الحقيقية وستكشف كيف أن تيار المستقبل كان خادماً لحلفائه وليس العكس”.
من جهته، يقول مرجعٌ سياسي آخر في التيار “الوطني الحر” إنّ “جميع حلفاء الحريري كانوا ضدّه على أرض الواقع، إذ استفادوا منه كثيراً ويريدون بقاءه للاستفادة أكثر”.
وتابع: “ما فعله الحريري خطيرٌ جداً على الساحة السياسية، لكنه كان بمثابة نقطة على سطر الاستغلال. كان حلفاؤه يطلبون منه الكثير ويقدم لهم، وبعد ذلك تبدأ حملات التخوين والهجوم، وكأنه ليس معهم. حتماً، استطاع الحريري أن يلجم الاستغلاليين ومن الممكن أن يعيد تموضعه لاحقاً عبر تحالفات جديدة وفعلية حقاً تساهم في إحياء تيار المستقبل من جديد وتمكّنه من الاستفادة من كل الحيثيات السياسية الأخرى، وهذا ما يجب حصوله لأن تهميش الطائفة السنية ليس سهلاً وهو اخلالٌ بالتوازنات”.
باختصارٍ شديد، ما يُمكن قوله هو أنّ تيار “المستقبل” بات يخوضُ اليوم معركة وجودية بكافة المقاييس، في حين أن الأطراف الفاعلة معه تحتاجُ إلى حسم خياراتها باتجاهه، والاستحقاق الانتخابي القادم سيُبيّن ما إذا كان حلفاء “المستقبل” سيبادرون نحوه ولو بشكل غير مباشر أم لا، لأن الحاجة الانتخابية والشعبية تقتضي ذلك، في حين أن هذا الأمر يكشف عن أزمة توازنات حقيقية يمكن أن تهدّد الكتل النيابية للجميع.