أعاد قرار الرئيس سعد الحريري تعليق عمله السياسي، وكذلك تيار “المستقبل”، وعدم خوضهما غمار الإنتخابات النيابية هذه السنة، إلى الذاكرة الوطنية الجماعية الدور التاريخي الذي كان للطائفة السنّية في بناء لبنان العيش المشترك، على رغم ما تعرّضت له من حملات لإضعاف هذا الدور، وإستهداف بعض رموزها السياسيين والدينيين لعمليات إغتيال يعتقد كثيرون أنها منظّمة ومدبّرة من قبل جماعات متضررّة من حجم هذا الدور وفاعليته على إمتداد ساحة الوطن. وفي هذا السياق كان اغتيال رجل الإستقلال، الرئيس رياض الصلح، واغتيال رجل الدولة، الرئيس رشيد كرامي، ورجل الإعتدال، الرئيس رفيق الحريري، واغتيال مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد، واغتيال الشيخ صبحي الصالح وغيرهم كثر وصولًا إلى إغتيال الوزير السابق محمد شطح.
صحيح أن الطائفة السنّية ليست الوحيدة التي تعرّض زعماؤها لعميات إغتيال ممنهجة. فيد الشرّ إستهدفت كثيرين من غير طوائف تميّزوا بمواقف وطنية صلبة، وكانوا حريصين على استقلال لبنان وسيادته ووحدة اراضيه وشعبه، كالزعيم كمال جنبلاط والشيخ بشير الجميل والوزير بيار الجميل وإستمرار إخفاء الإمام موسى الصدر.
وعلى رغم كل ما تعرّضت له الطائفة السنّية من عمليات إغتيال جسدية ومعنوية إستمر من تولّى مهمة الإنقاذ من بعد إغتيال الرئيس الحريري في تحمّل كامل المسؤولية، من الرئيس نجيب ميقاتي الى الرئيس سعد الحريري ، غير متخّلين عن حرصهم ودورهم في ادارة شؤون الوطن وحمايته والنهوض به، على رغم الصعوبات الكثيرة.
فأهل السنّة في لبنان هم المعبر الطبيعي لعلاقة لبنان مع العالمين العربي والاسلامي. من هنا كان إستهدافهم ومحاولة إضعافهم، كخطوة تكاملية مع مشاريع إقليمية تهدف إلى استعداء الامة العربية والاسلامية في مختلف الدول العربية والاسلامية بإعلان الحرب عليها، عسكريًا وسياسيًا واعلاميًا واقتصادياً وعبر المخدرات التي يتمّ تهريبها إليها.
يقول بعض العارفين أن هذه السياسة قد نجحت إلى حدّ بعيد، والدليل أن لبنان أصبح في شبه عزلة عن محيطه العربي، وبالأخصّ الخليجي، وهو الذي لا يزال في أمسّ الحاجة إلى كل من الرعايتين العربية والدولية. وقد تكون “الورقة” الكويتية آخر أمل للبنانيين قبل أن يذوبوا في مشاريع لا تشبه طموحات كثيرين منهم، الذين لا يزالون يصرّون على أن يبقى لبنان ذا وجه عربي.
إن غياب سعد الحريري عن الساحة السياسة، ولو إلى حين، ليست محصورة مفاعيله وتداعياته بالطائفة السنّية فحسب، من حيث حضورها السياسي ودورها التاريخي في الحفاظ على هوية لبنان، بل يعني جميع الطوائف في لبنان في تكامل أدوارها وتفاعلها إيجابيًا مع بعضها البعض، وليس لأسباب ظرفية كما هو حاصل الآن، حيث يحاول كل طرف من الأطراف السياسية إستمالة السنّة عبر مشاعر “الغيرة” الظرفية، معتقدين أنهم “سلعة” يمكن التصرّف بها بهذه الخفّة غير المسبوقة، متناسين أن همّ الذين لا يزالون يمسكون بناصية المبادرة هم في مكان آخر، لأن الوطن يعيش على حافة السقوط إلى الهاوية السحيقة، حيث يصبح النهوض منها أمرًا مستحيلًا.
فهمّ الناس اليوم، وقبل أي همّ آخر، وعلى رغم أهمية الإنتخابات النيابية، هو التفتيش عن السبل الكفيلة بإبعاد شبح الجوع عنهم وعن عيالهم. همّهم اليوم هو تأمين صفيحة مازوت والقليل من الحطب لردّ لسعات غضب الطبيعة.
همّ الناس هو غير همّ بعض السياسيين الذين لا يزالون يبحثون عن صوت إنتخابي من هنا ودعم من هناك، وكأن لا أزمة إقتصادية في البلاد، ولا أزمة معيشية ولا أزمة حتى وجودية، بحيث أصبح هذا الهمّ محصورًا في كيفية تأمين “فيزا” هجرة لأبنائه حتى ولو كانت الوجهة بلاد “الماو ماو”.
فأمام هول ما يعيشه اللبنانيون من أزمات متتالية ومتراكمة مطلوب من أهل السياسة قبل غيرهم الاّ “يقزّموا” طموحات من قرروا أن يبقى صامدين في وطن يريدونه فوق كل الأوطان، وهذا ما فعله قبلهم أجدادهم وأباؤهم من قبلهم.