عندما تصفى النوايا تكتمل مشاريع إعادة بناء الوطن على أسس جديدة قد يتداخل فيها ما كان جيدًّا من زمن مضى، وما يمكن أن تكون عليه الحال في المستقبل القريب بعدما إكتشف الجميع، بإستثناء قلّة لا تزال تكابر وتعاند، أن النهج الذي كان معتمدًا على مدى عقود أدّى إلى سلسلة من الإخفاقات أوصلت البلاد إلى حال لا تُحسد عليه، حيث يضرس فيها الأبناء بعدما أكل الأباء الحصرم، ولم يتركوا لا أخضر ولا يابس.
الشيء الثابت في كل هذه المنظومة المتغيّرة أو الآيلة إلى التغيير بحكم تطوّر الأمور طبيعيًا أن ثمة مرجعيات أساسية في البلاد لا تزال تُعتبر محجّة يمكن أن يركن إليها الجميع، على رغم إختلاف توجهاتهم السياسية وإنتماءاتهم الطائفية، وذلك عندما يدّق الخطر ويدهم الأبواب، وعندما يكون المصير مهدّدًا ويتزعزع الكيان، مع ميلنا إلى الجنوح لإختيار الدولة المدنية كصيغة بديلة للصيغة الطائفية. وهذا لا يعني التخّلي عن المشورة التي يمكن أن تقدّمها هذه المرجعيات الدينية كرموز للمعنى الوجودي للبنان الحضارة والقيم.
ولكي لا ننجرف كثيرًا في تيّارات التنظير النظري لا بدّ من التنويه بالدور الوطني لبكركي، التي تُعتبر مرجعًا لجميع اللبنانيين، وبالأخصّ للذين لا ينتمون دينيًا إلى الطائفة المسيحية، الذين يرون في هذا الصرح بما يجسدّه من ثوابت لم تتغيّر عبر التاريخ، من يانوح إلى إيليج إلى قنوبين فبكركي، مقصدًا لطلاب السيادة والحرية والكرامة والإستقلال.
في المقابل نرى الكثيرين من اللبنانيين يحجّون في أوقات المحن إلى دار الفتوى، التي تُعتبر في اللاوعي الوطني الجماعي ملاذًا يمكن اللجوء إليه عندما تشتدّ الصعاب وتهتزّ أساسات الهيكل.
فما شهدناه من “زحف” مسيحي إلى دار الفتوى بعد قرار الرئيس سعد الحريري تعليق عمله السياسي وعدم ترّشحه للإنتخابات النيابية يؤسّس لمشهدية سياسية جديدة من خلال التعاطي مع المستجدّات الواقعية بمنسوب عالٍ من المسؤولية التشاركية في أي قرار قد يُتخذ على مستوى الوطن، وإن كان لبعض هذه الزيارات ضرورات إنتخابية مبرّرة.
وعلى رغم ذلك، يبقى هذا المشهد واحدًا من بين السلوكيات العامة، التي يرتكز عليها الكيان اللبناني، والتي يلجأ إليها اللبنانيون، مسلمين ومسيحيين، كجسم واحد متراص، من دون أن يعني ذلك ذوبان هامش الفروقات التي تميّز بينهم في العموميات. ولكن عندما يتعلق الأمر بمصير الوطن تراهم صفًّا واحدًا في مواجهة أي محاولة لتغيير نمطية الصورة التي إنطبعت في الأذهان منذ إعلان “لبنان الكبير” حتى اليوم.
فالمكونات اللبنانية على تنوّعها وتعدّدها وتمايزها بخصوصيات تكاملية تجد نفسها متلاصقة تلقائيًا ومن دون مقدّمات، عندما تستشعر أي خطر داهم يمكن أن يهدّد الوحدّة الداخلية ويعيد عقارب الساعة إلى الوراء. فالتقاتل الداخلي قد أصبح من الماضي، ولا مجال لإعادة إحياء ما لا يريده جميع اللبنانيين على حدّ سواء، وهم مجندّون حاليًا في معركة مواجهة التحدّيات المعيشية والإجتماعية.