يسعى اللبنانيّ دومًا إلى رفع اسم بلده في المحافل الدوليّة، على عكس ما يبدو عليه توق بعض القائمين على سياساته الاقتصاديّة، فإحصائيّات البنك الدوليّ “ما بينرفع فيها الراس”، ومال معظم المسؤولين إلى إعطاء “الدينة الطرشة” للخبر على الرغم من خطورته، وكأنّ اقتصاد البلد وانكماشه ليسا من أولويّاتهما، فتصرّفوا كأنّ شيئًا لم يكن، إذ إنّهم لا يسمعون صراخ شعبهم المتألّم.
يعيش الاقتصاد اللبنانيّ حدثًا مُزَلزِلًا، فهو على “ع حافّة قبره” كما يقول المثل، إذ تنتابه إحدى أقسى الأزمات منذ أكثر من ١٥٠ سنة. فأنقسم الناتج المحلّي إلى أكثر من النصف في سنتين، وكذلك دَخلُ الفرد بالنسبة نفسها تقريبًا، ممّا قاد لبنان ليكون في المركز الأوّل عالميًّا بمعدّلات الانكماش، وبالتأكيد ما زالت البطالة تضرب أرقامًا قياسيّة في ازديادها يومًا بعد يوم.
مهما انخفض سعر صرف الدولار في الآونة الأخيرة، يدرك المراقبون جميعهم إنّ هذا التحسّن مؤقّت ووهميّ، وقد يتضاعف هذا الانحدار إلى أكثر ممّا وصلت إليه الليرة اللبنانيّة الّتي فقدت ثلاث أرباع قيمتها إلى هذه اللحظة. ويقابل هذا الأمر ارتفاع معدّل التضخّم، حيث حصل لبنان على الميداليّة البرونزيّة أمام السودان وفنزويلا.
الطَرش واكبه العمى فالمسؤولين “إجو ليكحلوّا عميوّا” والتضخّم الحاصل يتمثّل بوجهٍ فاضح في حالة الشعب الّذي يرضخ أكثر من نصفه تحت خطّ الفقر بحسب المعايير الدوليّة، فهو أمام تحدّيات يوميّة في تأمين مأكل أولاده، ورعاية صحّة مسنّيه ومرضاه، واصطفافه على أدوار البنزين، وكلّ ما يمكن أن يحصل عليه بتكلفة أرخص، ولو كان ذلك مقابل تقليل من قيمة كرامته.
ولأنّ مسؤولين كثيرين “تمسَحوا” وفقدوا الاحساس بمواطنيهم، انعكس هذا الداء على ثقة المستثمرين عمومًا في الواقع اللبنانيّ، وأدّى إلى عدم رغبتهم في أخذ المبادرات والمجازفات في بلدٍ تقلّ فيه رؤوس الأموال، وتنخفض معها معدّلات الانفاق في الشركات، الأمر الذي يؤدّي إلى كبح العجلة الاقتصاديّة في كافّة الشرائح الاجتماعيّة.
لن نشهد أيّ تحسّن ما دام المسؤول لا “يشتمّ” رائحة تفسّخ الجسم الاقتصاديّ، وهذا ما يتجسّد في تدهور البنى التحتيّة التي لا يمكن أن تقوم أيّ دولة من دونها. مؤخّرًا، احتلت الدولة اللبنانيّة المرتبة الأدنى في نسبة الإيرادات إلى الناتج المحلّيّ، وبعبارة أُخرى، أصبحت الدولة عاجزة على الإنفاق من أجل تحسين البنية التحتيّة، والصحّة، والتعليم، وهي عادةً العوامل الأساسيّة الّتي تنهض بالبلد.
ولأنّ المسؤولين لن “يتذوّقوا” مرارة الفقر في قصورهم، وأمام احتلال لبنان للمركز الرابع عالميًّا في نسبة الدين الحكوميّ للناتج المحلّيّ، فنجدهم لا يكترثون لرفع الرسوم على البضائع المستوردة الّتي ستجعل الفقير أمام خياراتٍ يوميّة مؤلمة وهو لا يعي أنّ صليب ردم عجز الموازنة الحكوميّة قد وقع على كاهله وحده إلى حدٍّ بعيد، في ظلّ تبرّؤ المستفيدين من مساهمتهم في هذه الجريمة، فها هم يتفرّجون بعد أن غسلوا أيديهم، ومعها آخر ذرّة حسّ لديهم.
بالطبع، سيبقى التاريخ يذكر أنّ بيلاطس هو المسؤول كونه كان يعتلي الكرسي يوم صُلِب البريء، وأيّ محاولة لدى الحاكم في قتل أحاسيسه الخارجيّة لن تنفع في تخلّصه من كوابيسه اليوميّة، لأنّ وخز الضمير أشدّ من أيّ ألمٍ حسّيّ خارجيّ، لكن خوفنا أن يكون المسؤولين قد استأصلوا ضميرهم ولن يثنيهم شيء بعد الآن في المضيّ في تعميق ألم المواطن، بدل أن تسارع سياساتهم على إيجاد الحلول ضدّ البطالة، ووقف هجرة اللبنانيّين إلى الخارج، وعزوف الكثير من الشبيبة عن متابعة تحصيلهم الدراسيّ.