لم تكن المهمة سهلة، بل كادت تكون مستحيلة. فإقرار مشروع الموازنة أمس في جلسة عُقدت في القصر الجمهوري بعد جلسات ماراتونية في السراي الحكومي على مدى أسبوعين أمر يجب التوقّف عنده. ليس لشيء بل لأن ما أنجزته الحكومة ليس بقليل، وذلك بإعتراف أكثر الخبراء الماليين دراية بالوضع المالي والإقتصادي المأزوم في البلاد.
قد يقول البعض أن هذه الموازنة لم تأتِ معبّرة عمّا يطمح إليه اللبنانيون الذين يعانون من ضائقة معيشية غير مسبوقة. فهذا الكلام وغيره الكثير لم يكن غائبًا عن مداولات الحكومة عندما كان الوزراء يتوقّفون مليًا عند كل بند من بنود “موازنة أفضل الممكن”. فمطالب الشعب كانت هاجسًا أوليًّا من هواجس الحكومة، إضافة إلى هواجس أخرى، وأهمها كيفية المواءمة بين النفقات والمداخيل، التي أصبحت محدودة جدًّا، ناهيك عن الهاجس الأهم المتمّثل بعدم فرض ضرائب جديدة على المكّلف اللبناني، الذي لم يعد في إستطاعته تحمّل أكثر مما يتحمّل. هذا فضلًا عن هاجس يومي، وهو ما يقضّ مضاجع المسؤولين الحاليين على رأس السلطة الإجرائية غير المسؤولين في الواقع عمّا آلت إليه أوضاع البلد من إهتراء، وما أصاب مؤسسات الدولة من شلل وعجز، وما يتعرّض له المواطنون من تحدّيات، إعترف الرئيس نجيب ميقاتي بأنها كبيرة وصعبة ومقلقة.
فمن سمع رئيس الحكومة يتحدّث بالأمس بعد جلسة مجلس الوزراء أدرك حجم معاناته الشخصية والوطنية على حدّ سواء، وأدرك تمام الإدراك حجم المسؤولية التي يتحمّلها بجرأة ووعي وإلتزام.
فهذه المسؤولية كبيرة وكبيرة جدًّا. فهي تتطلب الثبات في المواقف وعدم الإستسلام عند أول صعوبة تعترض مسيرة الإصلاح الطويلة. ولكن مع هذا الإصرار لا يمكن إستسهال الأمور، ولا يمكن بالتالي الإستخفاف بحجم الصعوبات التي تقف حائلًا دون تحقيق الحدّ الأدنى من متطلبات إبقاء لبنان واقفًا على رجليه وصامدًا في وجه أعتى الأعاصير التي واجهته منذ قيامه، وهي تعني كل لبناني في الصميم، وتطال الجميع من دون إستثناء، إذ لا خيمة فوق رأس أحد. فتراجع القيمة الشرائية لليرة يعني إبن كسروان كما يعني إبن طرابلس والجنوب والبقاع والعاصمة بكل ضواحيها.
ما أنجزته الحكومة، على رغم مآخذ البعض عليها، ليس إنجازًا بل هو أشبه بإعجوبة. وهذا ما إعترف به أهل الإختصاص من غير اللبنانيين، والذين هم على تماس شبه دائم مع مشاكل لبنان وما يعانيه من صعوبات وما يواجهه من تحدّيات.
أن يُنجَز مشروع موازنة سلك بالأمس طريقه إلى مجلس النواب في هذا الظرف الصعب والعصيب ليس بالأمر السهل. أن تتمكن حكومة الرئيس ميقاتي من إرسال مشروع الموازنة إلى مجلس النواب مع عجز بنسب متدنية قياسًا إلى حجم التحدّيات الإقتصادية والمالية أمر يجب التوقّف عنده، خصوصًا أن المعنيين بهذا المشروع يعتبرون أنه بداية الطريق لخطّة تعافٍ أشمل وأوسع، والتي تتطلب جهودًا متضافرة من قبل الجميع، وليس من قبل الحكومة وحدها.
كان الرئيس ميقاتي بالأمس واقعيًا، مع ما يعنيه هذا الواقع من صعوبات وما فيه من تحدّيات، ولكنه كان في الوقت نفسه كان متفائلًا، كعادته وخصوصا في زمن الأزمات الكبرى، لأنه يؤمن في قرارة نفسه بالطاقات الإيجابية التي تميّز اللبنانيين، على رغم الإختلاف في وجهات نظرهم حول أمور كثيرة، ولأنه مؤمن بأن دور لبنان أكبر بكثير من دور أي بلد آخر نظرًا إلى تعدّديته وغناه الفكري والروحي، ولأنه مؤمن أولًا وأخيرًا بأن لبنان لن يُترك يواجه مصيره لوحده.