بمُعزَلٍ عن بعض ردود الفعل “العاطفية” التي رافقت مصادقة الحكومة على موازنة العام 2022، التي وصفها وزير المال بـ”التصحيحية” لمرحلة “انتقالية طارئة”، وبعض التعليقات التي أخرجت كلام رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عن سياقه، فإنّ الخطوة التي يُنتظَر أن تُستكمَل في مجلس النواب، تشكّل “نقطة فاصلة” لا بدّ من البناء عليها في القادم من الأيام.
صحيح أنّ جلسة إقرار الموازنة لم تطُل كثيرًا، خلافًا لبعض التوقعات، التي ذهب بعضها لحدّ التكهّن باحتمال تأجيل الحسم لأيام إضافية، ولكنّ الصحيح أيضًا أنّ إنجاز الحكومة، إن قُدّر وصفه بهذا الشكل، ليس سوى خطوة أولى في مسار الألف ميل، على طريق الإنقاذ، الذي يتطلّع إليه جميع اللبنانيين، بمختلف انتماءاتهم وميولهم السياسية.
وإذا كانت هذه الموازنة تأتي ترجمة للبيان الوزاري، الذي تعهّد بالمضيّ في “خريطة الطريق”، فإنّ الأنظار تتّجه إلى “خطة التعافي المالي” المُنتظَر أن تبصر النور بدورها خلال الأيام المقبلة، في ضوء المفاوضات التي خاضتها الحكومة مع صندوق النقد الدولي، الذي أكّد بالأمس أنّ فريقه يعمل عن كثب مع السلطات اللبنانية لتطوير برامج إصلاح.
شعبوية وسلبية
“ما كان بالإمكان أفضل ممّا كان”. بهذه العبارة، يختصر العارِفون النتيجة التي خلصت إليها جلسة إقرار الموازنة، فصحيح أنّها حملت المزيد من “الأعباء” على اللبنانيين، من خلال رفع رسوم بعض الخدمات، فضلاً عن تبعات “الدولار الجمركي”، لكنّ الصحيح أيضًا أنّ المُنتظَر كان “أثقل وأمرّ”، بدليل ما كان يُحكى قبل تشكيل الحكومة عن إجراءات “غير شعبيّة” سيكون عليها اتخاذها بمجرد وصولها إلى سدّة المسؤولية.
هكذا، جاءت هذه الموازنة خالية من الضرائب الجديدة، وفق ما أكّد رئيس الحكومة، لكنّها في الوقت نفسه انطوت على مسار “تصحيحي” للضرائب والرسوم، لأنّ الدولة ما عادت تمتلك الأموال، وبالتالي ليست قادرة على إنفاق المزيد من الأموال، وهو واقع لا شكّ يدركه القاصي والداني، فالأزمة المالية والاقتصادية ليست وليدة اليوم، وقد بدأت منذ أواخر العام 2019، وأدّت الأزمة السياسية إلى تفاقمها أكثر فأكثر إلى أن وصلت لما وصلت إليه.
إلا أنّ اللافت في كلام رئيس الحكومة تمثّل في دعوته إلى الابتعاد عن “السلبية والمزايدة”، ربما لأنّه كان يتوقّع سلفًا أن يعمد البعض إلى “التصويب” على الموازنة، مثلما حصل، علمًا أنّ الرئيس ميقاتي تعمّد في كلمته بعد انتهاء جلسة إقرار الموازنة، إيلاء الجانب الاجتماعي الأولوية القصوى، متحدّثًا عن بعض الإجراءات التي ستتّخَذ لدعم موظفي القطاع العام وبعض القطاعات الأخرى، عسى أن يتيح ذلك لهم الصمود والمقاومة، على طريقتهم.
الرحلة لم تنتهِ
في كلمته بعد الجلسة التي عقدت في قصر بعبدا، قال رئيس الحكومة إنّ أيّ “عمل إنقاذي يتطلب تضحيات وتعاون الجميع”، داعيًا المواطنين الذين يعانون أساسًا بعدما احتُجِزت أموالهم في المصارف إلى “التحمّل” لتمرير هذه المرحلة بالتي هي أحسن، فتعرّض للهجوم من كثيرين لأنّه طالب الفئة المُستضعَفة، أي الشعب، بالتحمّل والصبر، في حين أنّ الطبقة السياسية هي الأوْلى بمثل هذه النصائح والإرشادات والتوجيهات.
قد يكون ذلك صحيحًا، لكنّ الصحيح أيضًا أنّ “الرسالة” التي أراد ميقاتي إيصالها، عشية صدور خطة التعافي المالي، التي قد يرى فيها البعض “زيادة للأعباء” أيضًا، هي أنّ مثل هذه الإجراءات لا بدّ منها اليوم، لأنّ “البديل” هو الاستسلام لحالة “الإفلاس” التي وصل إليه البلد، مع ما يعنيه ذلك من تكريس لواقع “الانهيار” الذي تعيشه البلاد على مختلف المستويات، والذي جاءت الحكومة أساسًا في محاولة لتفادي تداعياته “الدراماتيكية”.
بمعنى آخر، أراد ميقاتي القول إنّ إقرار الموازنة، بمُعزَلٍ عمّا تنطوي عليه من تضحيات وربما تنازلات، هو خطوة أساسيّة لتحقيق “الإنقاذ” الذي يصبو إليه الجميع، ولكنّه أيضًا ليس سوى “محطة” على طريق الإنقاذ، فالرحلة “طويلة”، وهي لا شكّ “شاقة ومتعبة”، وربما “مرهقة”، وعلى الجميع الاستعداد لها، علمًا أنّ الحكومة إذا ما وحّدت جهودها، وابتعدت عن النكايات المتبادلة، قادرة على إحداث “الخرق” المُنتظَر.
ثمّة من يقول إنه لا يوجد موازنة “ترضي” أيّ شعب، في مُطلَق الأحوال، فكيف بالحريّ في بلد يعاني ما يعانيه من ويلات إفلاس وانهيار، يبدو بلا حدود. لكن، مع ذلك، يمكن النظر إلى الأمور من زاوية مختلفة، من زاوية أنّ الموازنة هي التي ستفتح الباب أمام الإنقاذ، ولو أنّ الأخير يبقى “مشروطًا” بسلسلة من الإجراءات الأخرى، أولها ورشة الإصلاحات الموعودة منذ سنوات، والتي باتت قريبة إذا لم تصطدم بـ”معيقات” اللحظة الأخيرة!