في الذكرى السابعة عشرة لغيابه يأتي الوفاء أولوية مطلقة من بين أولويات كثيرة ليحتّل المقام الأول الذي يستحقه رفيق الحريري، كرئيس وكشهيد في مسيرة كوكبة من الشهداء، الذين سبقوه أو الذين سقطوا من بعده، والذين رسموا بدمائهم خارطة طريق لم توصل إلى الهدف الذي من أجله إستشهد وإستشهدوا.
في خلال هذه السنوات السبع عشرة مرّ لبنان بظروف قاسية وصعبة. كان فيها القليل من “الطلعات” والكثير من “النزلات”.
فبعد الإنفجار – الزلزال في 14 شباط توحدّت القوى السياسية، التي إعتبرت عملية إغتيال رفيق الحريري إغتيالًا للبنان، وعلى رأسها إبن الشهيد، سعد الحريري، الذي ألقيت على عاتقه مسؤولية إكمال مسيرة والده لمحاولة إخراج لبنان من أزماته الكثيرة، والتي تراكمت وتفاقمت، على رغم توحّد القوى التي سمّت نفسها “سيادية” في لقاء 14 آذار، أي بعد شهر من الإستشهاد.
نزل الناس المتعطشّون إلى ساحة الشهداء للتعبير عن كل أشكال الحرية. فكان لنزلتهم صدىً غير مسبوق على الساحتين الداخلية والإقليمية – الدولية، وكان من نتائجها خروج الجيش السوري من لبنان.
ولكن، وعلى رغم هذا الإنجاز التاريخي، الذي إستطاعت قوى 14 آذار تحقيقه، فإن مشروع “السيادة” دخل في الزواريب السياسية الضيقة. ولم تلبث هذه القوى، قبالة تحالف قوى 8 آذار، والذي كان “حزب الله” عماده الأساسي من خلال تحالفه مع “التيار الوطني الحر”، إلاّ أن تراجعت على مستوى المشروع السياسي بعناوينه الكبيرة، وما لبث تحالف هذه القوى إلاّ أن تشرذم، خصوصًا أن الساحة السياسية الداخلية شهدت أكثر من محطة مفصلية، ومن أهمها حرب تموز، وصدور القرار 1701، وما تلا هذه الحرب من إصطفافات سياسية أدّت حدّتها إلى أحداث “7 أيار”، ومن بعدها “تسوية الدوحة”، حيث توافق الأطراف السياسيون على صفقة سياسية داخلية قادت إلى إنتخاب العماد ميشال سليمان رئيسًا للجمهورية، الذي أنهى عهده بخلاف مع “حزب الله” حين وصف “الثلاثية الذهبية” بـ “الثلاثية الخشبية، بعدما سقط “إعلان بعبدا”، الذي إنتهى إلى مرحلة من الفراغ في سدة الرئاسة الأولى، إلى حين التوافق على إنتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للبلاد، بعد تسوية رئاسية بين الرئيس سعد الحريري والوزير السابق جبران باسيل، وبعد إتفاق معراب.
وقد تكون محطة إستقالة الرئيس الحريري من المملكة العربية السعودية وما تلاها من فرز سياسي أدّى إلى توجيه ضربة قاسية للعلاقات الثنائية داخل الفريق الواحد، وبالأخصّ بين تيار “المستقبل” و”القوات اللبنانية” على رغم القواسم المشتركة التي تجمع بينهما، مع إستمرار سياسة ربط النزاع بين تيار “المستقبل” و”حزب الله”، مرورًا بإنتفاضة 17 تشرين الأول وإستقالة الرئيس الحريري، ومن بعد ذلك وقوع “إنفجار العصر” في مرفأ بيروت وما نجم عنه من كوارث على الصعيدين البشري والمادي الذي ضرب نصف العاصمة، وصولًا إلى إعلان الحريري تعليق عمله السياسي هو وتياره السياسي، وعدم ترشّحه للإنتخابات النيابية. مع ما رافق كل هذه التطورات الداخلية من تغييرات على مستوى الساحة العربية بعد “الربيع العربي” والظهور المثير للجدل لـ”داعش” والحرب في كل من العراق وسوريا واليمن، إضافة إلى توتر العلاقات بين لبنان ودول الخليج، وبالأخصّ المملكة العربية السعودية، وإتهام “حزب الله” بالتدّخل في شؤون الدول العربية الداخلية.
إلاّ أن كل هذه الأزمات لم تنسينا أن مسيرة الرئيس رفيق الحريري الوطنية والسياسية والإنمائية والعربية طبعت مراحل لا يمكن لتاريخ لبنان الحديث أن يتجاوزها، وهي ستبقى شاهدة في كل عاصمة ومدينة وناحية لأزمنة طويلة، تماماً كجريمة اغتياله الرهيبة التي أرست صورة تراجيدية من الصعب تخطيها في المدى المنظور أو إلغاؤها من عقل شريحة واسعة من اللبنانيين ووعيهم ، وخصوصاً سُنة لبنان الذين اعتبروا منذ لحظة اغتياله أنهم مستهدفون بوجودهم، وهم من بناة إستقلال لبنان وديمومته وعماد صيغته التشاركية الفريدة.
لن ننسى أن الرئيس الشهيد إستطاع ومن خارج نادي الزعامات السياسية التاريخية التقليدية أن يكون زعيماً عابراً للطوائف متصدياً بوطنيته وعروبته لتبديد هواجس الآخرين، وتجاوز مفاعيل اللاتوازن التي نتجت عن الحرب الأهلية، والتي أنهاها إتفاق الطائف بتوافق داخلي شبه تام وبرعاية دولية وعربية.
سبع عشرة سنةً على جريمة 14 شباط المشؤومة، تبدلّ الكثير من مشهدية الحياة السياسية الداخلية، وطرأت تطورات مفصلية، لعب سنّة لبنان فيها دور المهدىء لما يمكن أن يثار من حرائق كانت ستأكل الأخضر واليابس، في حال نشوبها. وهذا ما كشفه سعد الحريري في الكتاب، الذي إستودع فيه الله لبنان، حين قال إن مشروع رفيق الحريري يمكن اختصاره بفكرتين: أولا: منع الحرب الأهلية في لبنان، وثانيا: حياة أفضل للبنانيين. نجحت في الاولى، ولم يكتب لي النجاح الكافي في الثانية”، لافتا إلى أن “منع الحرب الأهلية فرض علي تسويات، من احتواء تداعيات 7 أيار إلى اتفاق الدوحة، الى زيارة دمشق، إلى انتخاب ميشال عون إلى قانون الانتخابات، وغيرها”.
بعد سبع عشرة سنة، نحن محتاجون اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى لمّ الشمل ضمن الثوابت التاريخية والوطنية التي تؤكد على العيش الوطني الواحد وأساسه الشراكة والمشاركة في بناء المؤسسات، وعماد هذه المشاركة التمثيل الصحيح لكل الفئات، والتمثيل الوازن داخل الطوائف، وقد تكون الإنتخابات النيابية المقبلة فرصة جديدة لتأكيد التمسّك بهذه الصيغة الفريدة، التي لا غنىً للبنان عنها، أيًّا تكن الإغراءات الأخرى.