في خطوة من شأنها “تثبيت” موعد الانتخابات، بعيدًا عن الإشاعات المتداولة والقيل والقال، حضر الاستحقاق المُنتظَر على طاولة جلسة مجلس الوزراء التي عقدت بالأمس، سواء من باب “التمويل” الذي يبدو أنّه تأمّن، مع إقرار الحكومة للاعتمادات المالية المطلوبة، أو من خلال المواقف التي أطلقها رئيسا الجمهورية ميشال عون والحكومة نجيب ميقاتي، الذي تعمّد الدعوة إلى الابتعاد عن “المزايدات” التي تتزايد في “موسم” الانتخابات.
لكنّ إقرار الاعتمادات المالية لا يبدّد كلّ الهواجس المرتبطة بالانتخابات، وآخرها “هاجس” الانكفاء السنّي الذي عاد ليترفع بعد تأكيد رئيس تيار “المستقبل” سعد الحريري على موقفه لناحية الإحجام عن خوض الانتخابات، بل دعوة أعضاء كتلته النيابية وتياره السياسي إلى عدم الترشح، وفرض “الاستقالة” الحزبية والتنظيمية، على كلّ من يرغب في الترشح إلى الانتخابات في صفوف تيار “المستقبل”.
وفي وقت تبدو سائر القوى السنية “متريّثة” في حسم موقفها، كان لافتًا إعلان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أنّه “غير مرشح”، حتى الآن على الأقلّ، باعتبار أنّه لا يزال يدرس “خياراته”، وإن حرص على “تمييز” موقفه عن موقف الحريري، رابطًا إياه بموقعه كرئيس حكومة انتخابات، وما يتطلبه من حياديّة قد يؤمّنه العزوف الشخصيّ عن الترشح، مع الاحتفاظ بحقّه الديمقراطيّ في دعم مرشحين ولوائح.
لا حماس
صحيح أنّ الرئيس ميقاتي حرص في حديثه الصحافي الأخير، إلى الدعوة إلى “عدم المقاطعة”، مشدّدًا على وجوب المشاركة في الانتخابات، بمعزل عن قراره الشخصي لناحية الترشح من عدمه، إلا أنّ الصحيح أيضًا أنّ ثمّة جوًا شعبيًا عامًا، وفي الساحة السنية بصورة خاصة، يميل إلى التعامل “بلا اكتراث” مع الاستحقاق، ويعكس بذلك “غياب الحماس” عن مواكبة العملية الانتخابية إلى حدّ بعيد.
لا شكّ أنّ الكثير من الأسباب والعوامل تدفع إلى تكريس “عدم الحماس” هذا، أولها أنّ “أولوية” الناس في مكانٍ آخر، على وقع الأزمات المتلاحقة التي لا تنتهي التي تتخبّط فيها، ولا سيما ما يتعلق بالواقع الاقتصادي والمالي المتفاقم، وثانيها أنّ الناس تشعر أنّ هذه الانتخابات لن تُحدِث أيّ تغيير، وهي ستعيد “رسم” الخريطة السياسية الحالية من دون فوارق تُذكَر، ولا سيما أنّ “البديل الحقيقي” لا يبدو متوافرًا.
ويُضاف إلى هذه الأسباب، بعض العوامل الخاصة بالبيئة السنية، مع “انكفاء” الرئيس سعد الحريري، الذي جاء بعد سلسلة أحداث شعر معها السنّة بأنّ هناك خللاً ما في المعادلة، بدأت منذ استقالته الشهيرة من الرياض عام 2017، وتمدّدت حتى وصلت إلى أوجها في الفترة الأخيرة، تزامنًا مع التدهور غير المسبوقة في العلاقات بين لبنان وعمقه العربي، ولا سيما مع دول الخليج التي لطالما كانت الداعم الأول للبنان.
ما البديل؟!
لهذه الأسباب، يخشى كثيرون أن “يقاطع” السنّة الانتخابات، ولذلك ربما كانت دعوة الرئيس نجيب ميقاتي إلى المشاركة، بعد تخوّفه من “إقبال ضعيف”، ولذلك أيضًا رفض آخرون في الطائفة السنية خيار المقاطعة، على رأسهم مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، الذي تشير المعطيات إلى أنّه يسعى للعب دور “بنّاء” في حثّ الشخصيات الوطنية على خوض الانتخابات، بالتي هي أحسن بالحدّ الأدنى.
لكن، بعد عزوف الرئيس الحريري، وتريث الرئيس ميقاتي، ثمّة معطيات تتبدّل في الخارطة السياسية وفق ما يرى كثيرون، خصوصًا أنّ أيّ جهة لم تظهر حتى الآن كـ”بديل فعليّ”، يمكن أن يملأ الفراغ على الامتداد الوطنيّ، علمًا أنّ الطامحين لوراثة الحريري، وبينهم شقيقه بهاء، لا يبدو أنّهم نجحوا حتى الآن في بناء “حيثية” كاملة تمكّنهم من استكمال “زعامة وطنية” حقيقية، كتلك التي كان يتمتّع بها “الشيخ سعد”، على سبيل المثال.
استنادًا إلى كلّ ما تقدّم، يرجّح كثيرون أن تتغيّر “الكفّة” هذه المرّة، لتذهب باتجاه “الزعامات المحلية”، التي قد يكون لها الكلمة الفصل في الساحة السنية، في ضوء التطورات الأخيرة، وقد تكون هذه الزعامات هي “البديل الواقعي” الوحيد، أقلّه في الدورة النيابية الحالية، التي سيكون على جميع اللبنانيين قراءة “رسائلها ودلالاتها” بوضوح، والقيام بمراجعات متى تطلّب الأمر، وأخذ العِبَر المناسبة، من أجل استكمال مشروع “الشراكة”.
الانتخابات حاصلة، يؤكد رئيس الحكومة، ومن خلفه وزير الداخلية، وجميع المعنيّين بالشؤون التنظيمية واللوجستية. لا بدّ أن تحصل الانتخابات في نهاية المطاف، فهذه سنّة الديمقراطية، وهذا جوهر النظام، فضلاً عن كونها مطلبًا دوليًأ أساسيًا. لكنّ هذه الانتخابات بالتحديد لن تكون كغيرها. ثمّة من يعتقد أنّ نسبة الاقتراع قد تكون “أهمّ” من النتائج. هي بذلك أقرب إلى “استفتاء”، قد تكون “مقاطعته” خيارًا، لكنّها بالتأكيد ليست “الحلّ المنشود”!