كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن” هل تذكرون يوم 21 شباط 2020؟ إنه تاريخ تسجيل أول إصابة مؤكدة بفيروس كورونا في لبنان. وهو يوم حل «الهلع» رسمياً ضيفاً ثقيلاً على البلد. ثم كرّت سبحة الإصابات مترافقة مع شيء من نبذ المصابين الأوائل كما تعقّبهم والتعامل معهم من قبل المحيطين بهم، بما يشبه التعامل مع كائنات من كوكب آخر. تلا ذلك تزايد الحالات باطّراد وتفشّي مشاهد ازدحام المستشفيات على الشاشات متجاوزة طاقتها الاستيعابية، لتزداد معها حالات الوفيات توازياً. جحيم بكل ما للكلمة من معنى كان بطله زائر غريب غامض شلّ الحياة قلقاً وحجراً وحصداً للأرواح. زائر لم تُخفّف من وطأته صور أكثر إيلاماً في كثير من الأحيان آتية إلينا من كافة أصقاع الأرض.
بعد ما يزيد على سنتين من معاناة لم يسلم منها أحد بطريقة أو بأخرى، ها هي العديد من الدول تشرع في تخفيف القيود لتستأنف تدريجياً معظم أشكال الحياة اليومية الطبيعية. في نفس الوقت، بدأنا نلاحظ تحوّلاً إيجابياً في طريقة تعاطي الإنسان مع الفيروس. إذ راحت الناس رويداً رويداً تتنفّس الصعداء وتتعامل معه كواقع لا بد من التأقلم معه. ماذا يقول علم النفس عن العوامل التي كانت بالمقام الأول وراء حالة الخوف الجماعي من الفيروس، وما هي الأسباب التي ساهمت وتساهم في تراجع حدّة هذا الخوف مؤخراً؟
في حديث لـ»نداء الوطن» مع عالم النفس العيادي والمعالج النفساني، الدكتور دومينيك رومية، لفت بداية إلى أن الخوف قد طال فئة معيّنة من الناس إذ إن الفئة الأخرى كانت تتعامل مع الجائحة بحالة من الـ»نكران»، ما جعلها تواجه الواقع بشيء من الاستهتار واللامبالاة. وأضاف: «لكي نتكلم عن الخوف، يجب أن يستشعر دماغنا بأننا في خطر، ومع بداية الجائحة، لم يدرك جميع الناس حجم ذلك الخطر». وهذا ما بدا واضحاً من خلال توجّه البعض إلى اعتبار الفيروس ليس أكثر من مؤامرة، فيما امتنع آخرون عن ارتداء الكمامة كونهم لم يدركوا ذهنياً بأنهم يواجهون خطر الموت. وبحسب رومية، فإنّ الدور الذي لعبته وسائل الإعلام من جهة ووزارة الصحة من جهة ثانية، حيث جرى استخدام عامل «التخويف بالتوعية» كجهاز إنذار، كان له وقعه أيضاً، «ففي بعض الأحيان يكون الخوف صحياً ومفيداً». كما ليس ثمة شك أنّ وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت بدورها في ارتفاع منسوب الهلع من جراء بثّها لإشاعات وأخبار مضللة في كثير من الأحيان للرأي العام كان من شأنها أن ملأت عقول الكثيرين بالأوهام والأكاذيب.
عامل آخر، لا يقل أهمية، كان له دور في تفاقم الصدمة النفسية التي تلقاها سكان كافة الدول، ومن ضمنها لبنان، ألا وهو ارتباك الحكومات والمختبرات العالمية في المراحل الأولى من انتشار الجائحة. فهي بمعظمها وقفت عاجزة حيال التصدي لأخطر وباء واجه البشرية بعد وباء الإنفلونزا الاسبانية عام 1918 والذي فتك بأكثر من خمسين مليون شخص. وعلى الرغم من التطور العلمي والتكنولوجي، يمكن القول إنّ الدول بدت غير مستعدة للمواجهة ما انعكس تراجعاً ملحوظاً في الحالة النفسية للأفراد عالمياً. إذ بحسب القول المأثور،»الإنسان عدو ما يجهل». بمعنى آخر، حين لا نتمكن من فهم ظاهرة معيّنة، والكلام دوماً لرومية، نتعامل معها كعدوّ ونُسقط عليها من ذاتنا كل ما يخيفنا.
رئيس اللجنة الوطنية لإدارة لقاح كورونا، والأخصائي في الأمراض الجرثومية، الدكتور عبد الرحمن البزري، لا يختلف رأيه عن رأي علم النفس في أنّ الإنسان يسعى دوماً إلى التعوّد والتأقلم مع كل جديد يواجهه، دون التقليل من أهمية الشعور بالأمان الذي منحه تلقّي اللقاح للملقّحين جراء ارتفاع المناعة الجماعية في وجه خطر الفيروس. ورغم أنّ احتمال ظهور متحورات جديدة ما زال قائماً، إلا أنها ستكون أقلّ شدّة من سابقاتها وسيعتاد الإنسان على مواجهتها، متسلحاً بالجرعات المعزّزة من اللقاح. وعن سؤال حول التطمينات التي تطلقها وزارة الصحة رغم أن عدد الإصابات المحلية ما زال بالآلاف، يجيب البزري: «نحن لا نرغب بإثارة الهلع من دون سبب أو مبرّر كما أننا لا نتذرع بإشاعة طمأنة كاذبة. يجب أن نعرض الحقيقة على الناس كي يدركوا أن عدم الالتزام بالإجراءات وعدم تلقّي اللقاح يجعل من الإصابة خطراً حقيقياً على حياتهم». وأردف أنّ الطمأنة اليوم هي نتيجة العوارض الخفيفة التي تترافق مع الإصابة بمتحور «أوميكرون» الذي، رغم عدد الإصابات المرتفعة به، لا تُقارن نسبة إشغال الأسرّة في المستشفيات بسببه بتلك التي فرضها قبله متحور «دلتا» وغيره. كذلك، ليس خافياً أيضاً أن تراكم الخبرات المحلية والعالمية في مجال التحكم الوبائي وتطوير العديد من الآليات الطبية والتكنولوجية واللوجستية في مجالات الرصد والتتبّع والكشف، ناهيك بالبروتوكولات العلاجية التي ساهمت في التقليل من خطورة الوباء وتخفيض معدل الوفيات، انعكست جميعها إيجاباً على الحالة النفسية العامة للناس.هل باتت الأولوية حالياً للعاملَين الاجتماعي والاقتصادي على حساب العامل الصحي؟ يقول البزري: «كنا نوصي بتسكير البلد لأننا لم نكن على دراية كافية إلى أين ستتجه بنا الأمور. لا شك أن الرهان كان معلّقاً في البداية على الأمن الصحي من خلال إقرار التدابير الاستثنائية وفرض الحجر الصحي وإغلاق البلد لأسابيع كاملة. لكن تمّ الإجماع بعدها على ضرورة التعايش مع الفيروس ضمن إطار من الحذر الطبيعي والمنطقي والالتفات إلى الأمن الاقتصادي والاجتماعي المتعلّقين به. فلا يمكن منع الناس لوقت أطول من العودة إلى التصرّف كما تملي عليهم طبيعتهم البشرية وممارسة حياتهم اليومية الاعتيادية».