رغم “السخونة” الدولية والإقليمية، على وقع “التوتر” غير المسبوق في أوكرانيا، وقرع “طبول الحرب” بين الغرب وروسيا، “المتهَمة” بالتحضير لاجتياح كييف، وفي ضوء تقدّم مفاوضات فيينا النووية، التي تشير المعطيات إلى أنّها تقترب من التوصل إلى “اتفاق جيد”، يبدو أنّ الملف اللبناني لا يزال قادرًا على “حجز مكانه” في الأروقة الدولية.
هكذا، وعلى الرغم من ضغط الملفات الساخنة في المنطقة والعالم، حضر الملفّ اللبناني على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن، وتحديدًا خلال اللقاء الذي جمع وزيري الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن والفرنسي جان إيف لودريان، بحسب ما أعلِن رسميًا، من دون ذكر التفاصيل، كما حضر أيضًا خلال اللقاء الذي جمع الأخير مع رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي.
وتشير المعلومات التي تمّ تسريبها في اليومين الماضيين إلى أنّ وزير الخارجية الفرنسيّ يستعدّ لزيارة العاصمة اللبنانية بيروت خلال الأيام القليلة المقبلة، وتحديدًا في الأسبوع القادم، إذا لم يطرأ طارئ، على خطّ الأزمة الأوكرانية خصوصًا، يستدعي تأجيل الزيارة، ما يعني أنّ الاهتمام الفرنسيّ بلبنان لا يزال على حاله، رغم تراجع الحديث عن “المبادرة الفرنسية” الشهيرة.
المبادرة مستمرّة
يقول العارفون إنّ المبادرة الفرنسيّة لا تزال حيّة، وهي مستمرّة عمليًا، ولكن من دون طنّة ورنّة، باعتبار أنّ الفرنسيّين أرادوا ترك الحكومة التي شُكّلت بمقتضى المبادرة تؤدّي قسطها، حتى يتسنّى لهم التدخل في وقت لاحق، بعد أن تكون “ورشة الإصلاحات” الموعودة منذ سنوات سلكت طريقها عمليًا، ودخلت حيّز التنفيذ، علمًا أنّ رهان باريس الأساسيّ في هذا الإطار يقوم على مفاوضات لبنان مع صندوق النقد، والتي يبدو لهم أنّها تسير على ما يُرام.
ويشير المتابعون في هذا السياق إلى أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لا يزال ماضيًا بمبادرته في لبنان، وهو لا يستطيع التخلّي عنها في الوقت الحالي، على أبواب انتخابات رئاسية “حامية” في فرنسا، قد يكون هو الأوفر حظًا فيها، إلا أنّ خصومه يستغلّون هذه النقطة بالتحديد للتصويب عليه، من خلال الإيحاء بأنّه “ضيّع وقته” على لبنان، من دون أن يجني “ثمار” مبادرته، في ظلّ “الانهيار الشامل” الذي يشهده لبنان.
من هنا، فإنّ زيارة وزير الخارجية الفرنسي المرتقبة إلى لبنان قد تكون في جانب أساسيّ منها تأكيدًا على استمرار المبادرة الفرنسية في لبنان، وبالتالي متابعة لمندرجاتها، لجهة الاطّلاع على ما تحقّق على أرض الواقع في المرحلة الأخيرة، خصوصًا أنّ وزير الخارجية الفرنسي نفسه سبق أن ركّز على الشأن اللبناني في محطات عدّة، وهو صاحب مقولة “ساعدونا لنساعدكم” الشهيرة، والتي اختصرت في مرحلة ما مقاربة المجتمع الدولي للأزمة اللبنانية.
الأولويات تبدّلت؟!
لكنّ زيارة لودريان إلى بيروت لن تقتصر بطبيعة الحال على هذا الجانب “التقني المحض”، باعتبار أنّ هناك موفدًا رئاسيًا فرنسيًا مولجًا أصلاً بمتابعة آليّات تطبيق المبادرة الفرنسية، وهو يزور لبنان بين الفينة والأخرى من أجل ذلك، ما يعني أنّ هناك “هدفًا سياسيًا” للزيارة، قد يكون “أبعد” من هذه التفاصيل، قد ينطوي في جزء منه على “تغيّر الأولويات” الدولية في الوقت الحالي في لبنان، قبل ثلاثة أشهر من موعد الانتخابات النيابية.
لعلّ الانتخابات تشكّل “كلمة السرّ” في هذا الإطار، إذ يرجّح العارفون أن يتصدّر الاستحقاق الديمقراطي المنتظر “أجندة” رئيس الدبلوماسية الفرنسية في زيارته المرتقبة إلى لبنان، عساها تكون بمثابة “رسالة حازمة” من المجتمع الدولي قد ترتقي لمستوى “الإنذار”، لاحترام الموعد الدستوري للانتخابات، وعدم التلاعب بها بأيّ شكل من الأشكال، خصوصًا في ضوء التقارير التي لا تتوقف عن “نوايا خفية” لتطيير الانتخابات أو تأجيلها بالحدّ الأدنى.
أما الإصلاحات التي لطالما شكّلت “جوهر” المبادرة الفرنسيّة، فلن تغيب عن الزيارة، وفق ما يرجّح المتابعون، لكن على أن تكون في مرحلة “لاحقة” للانتخابات، علمًا أنّ النتائج التي ستفرزها الانتخابات، والخريطة السياسية الجديدة التي ستتمخّض عنها، ستكون المخوّلة بتطبيق هذه الإصلاحات، علمًا أنّ الفرنسيّين لن يتردّدوا في دعوة الشعب اللبناني إلى تحقيق “التغيير” عبر صناديق الاقتراع، رغم الشكوك المتزايدة في القدرة الفعلية على ذلك.
لا تُعَدّ زيارة وزير الخارجية الفرنسي المرتقبة إلى بيروت الأولى، ولن تكون الأخيرة على الأرجح، طالما أنّ لبنان لا يزال في “سلّم الأولويات” الفرنسيّة في هذه المرحلة. لكنّ الزيارة هذه المرّة تختلف عن سابقاتها، ليس لأنّ ثمّة حكومة مؤلّفة وتعمل، ولكن لأنّها تأتي قبل انتخابات، يريد المجتمع الدولي أن يكرّسها “خطًا أحمر”، في وجه كلّ الحملات والمؤامرات، التي لا تزال تحيط موعدها بـ”التشكيك” الذي قد لا يكون “بريئًا”؟!