لا تزال التطورات في أوكرانيا “الشغل الشاغل” للعالم بأسره، في ظلّ “استنفار” دوليّ على خطّها، ومخاوف من تمدّد النزاع إلى “حرب شاملة”، وعلى وقع الفاتورة “الإنسانية” الباهظة التي بدأت تُرصَد، والتداعيات الاقتصادية “الثقيلة” التي قد تترتّب عليها، والتي يبدو أنّ أحدًا لن يكون بمنأى عنها، بشكل أو بآخر، خصوصًا إذا ما بدأ اللعب بـ”أوراق القوة”.
أما في لبنان، فعلى الرغم من كثرة الأزمات والاستحقاقات التي ترخي بثقلها على الوضع العام، على بعد أقلّ من ثلاثة أشهر من موعد الانتخابات النيابية المفترضة في 15 أيار المقبل، فقد هيمن البيان الصادر عن وزارة الخارجية حول الحرب في أوكرانيا على واجهة الأحداث، بعدما أدان “الاجتياح الروسي” للأراضي الأوكرانية، ودعا موسكو إلى “الانسحاب فورًا”.
فقد أثار هذا البيان “دهشة” روسيا، ممثلة بسفارتها في لبنان، التي اعتبرته منافيًا لسياسة “النأي بالنفس” المعمول بها في لبنان، فيما استنفر “حزب الله” للتصويب عليه، باعتبار أنّه لم يلتزم بمبدأ “الحياد” المطلوب في الصراعات الدولية، ما دفع كثيرين إلى التساؤل عمّا إذا كان البيان الذي وُصِف بـ”الجدلي”، يمكن أن يعرّض علاقات لبنان وروسيا للخطر؟!
هل “انحاز” لبنان؟
بالنسبة إلى “حزب الله”، فإنّ بيان الخارجية اللبنانية مُستغرَب، لأنّه اتخذ طرفًا ضدّ آخر، في صراع دوليّ بحجم الحرب في أوكرانيا، التي يخشى كثيرون أن تتحوّل إلى نزاع عالميّ، ولو أنّ المدافعين عن البيان يستندون إلى كونه انطلق من “بديهيات” في العمل السياسيّ، من دون أن يغوص في التفاصيل، إذ اكتفى بـ”إدانة” اجتياح، ومطالبة قوات غازية بالانسحاب.
لكنّ المعترضين على البيان يرون الأمر من زاوية مختلفة، فهو “انحاز” إلى الولايات المتحدة ودول الغرب في “مواجهة” روسيا، رغم “المصالح المتبادلة” مع الثانية، في موقف لا يراعي الأصول “الدبلوماسية”، ولم تبادر إليه العديد من الدول العربية التي اكتفت بالدعوة إلى التهدئة وضبط النفس، في وقت كان لافتًا مثلاً امتناع دولة الإمارات عن التصويت على مشروع قرار “يستنكر” الاجتياح في مجلس الأمن.
ويرفض “حزب الله” المقارنة بين مواقفه من بعض الملفات “الساخنة” في المنطقة، غير “الملزمة” للدولة، وفق ما يقول، رغم اعتبار كثيرين أنّها “تشوّش” على علاقات لبنان مع محيطه، وموقف وزارة الخارجية الملزم، مع الطابع “الرسمي” الذي يذيّله، علمًا أنّ بعض الانتقادات طالت وزير الخارجية بشخصه، بوصفه “أميركي الهوى”، فيما ألمح البعض إلى “ضغوط غربية” أملت على الوزير إصدار البيان “الجدلي”.
محاولات “احتواء”
في موازاة “الحملة” التي قادها “حزب الله”، بدأت محاولات “الاحتواء”، خصوصًا بعد بيان الخارجية الروسية التي عبّرت عن “دهشتها واستغرابها”، حيث أفيد عن بدء رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اتصالاته بهذا الشأن، فيما أعلن مستشار رئيس الجمهورية النائب السابق أمل أبو زيد عن زيارة له إلى موسكو لعقد اجتماع مع الخارجية الروسية لتوضيح الملابسات.
وفي حين برز اتجاه لتصوير البيان وكأنّه صدر عن وزير الخارجية عبد الله بو حبيب “ذاتيًا”، ولا سيما بعدما نُقِل عن رئيس “التيار الوطني الحر” الوزير السابق جبران باسيل رفضه لمضمونه، اعتبر كثيرون أنّ الأمر يندرج في سياق محاولات “الاحتواء” ايضًا، خصوصًا أنّ الوزير المحسوب أساسًا على رئيس الجمهورية، بادر إلى قبول الانتقادات “برحابة صدر”، من دون أن يرمي الكرة في “ملعب” غيره، رغم الاعتقاد بأنّ البيان صدر بعد استشارة المعنيّين.
بيد أنّ العارفين يؤكدون أنّ “الجدل” الذي أثاره بيان الخارجية في اليومين الماضيين لن “يرقى” لمستوى “الأزمة” على مستوى العلاقات مع الدولة الوسية، وهو ما ألمح إليه السفير الروسي نفسه، علمًا أنّ لبنان لطالما كان حريصًا على علاقاته “الودية والأخوية” مع موسكو وغيرها، وأنّ وزير الخارجية نفسه كان قبل أيام قليلة في موسكو يطلب الدعم والمساعدة، وهو ما لن تعكّر صفوه بيان صدر في لحظة “حرب”، إن جاز التعبير.
وكأنّ الأزمات المتفاقمة على كلّ الصُّعُد لا تكفي، حتى يجد اللبنانيون أنفسهم بين الفينة والأخرى في صلب “صراعات” أكبر منهم. يقول البعض إنّ هناك من “بالغ” في تحميل الموقف اللبناني ما لا يحتمله، باعتباره “مبدئيًا” ليس إلا، ويقول بعض آخر إنّ البيان ما كان يجب أن يصدر من الأساس، وإنّ أحدًا لم يكن ينتظر من دولة صغيرة كلبنان موقفًا أساسًا. وبين هذا وذاك، يبقى الأهمّ أنّ الأمر “يُعالَج”، لتبقى علاقات لبنان الدولية فوق كلّ اعتبار!