من تمعّن بالبيان الذي اصدره قبل أيام نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي حول ما توصلت إليه المفاوضات مع صندوق النقد الدولي يكتشف كيف أن كلماته قد إختيرت بعناية ودقّة فائقتين، كمقدمة للزيارة التي ستقوم بها بعثة كاملة من الصندوق للبنان في النصف الثاني من من الشهر الحالي لمواصلة المناقشات الرامية إلى الوصول الى أتفاق على برنامج مع الصندوق، بعد الزيارة التي قام بها فريق مصغر من الصندوق لبيروت. وكان تقييم للعمل المنجز حتى الآن وتحديد الخطوات التالية الواجب اتخاذها للتوصل إلى اتفاق بشأن برنامج مع صندوق النقد الدولي.المهم في ما نتج عن زيارة هذا الفريق الدولي الإتفاق مع الفريق اللبناني المفاوض على “ضرورة إجراء إصلاحات في الاقتصاد الكلي تشمل إصلاح المالية العامة في المدى المتوسط، وإصلاح القطاع المالي، وتوحيد سعر الصرف، فضلا عن الإصلاحات الهيكلية، بما في ذلك الإصلاحات المتعلقة بتخفيف حدة الفقر، والحوكمة، والكهرباء”.
ولم يكن إنتقاء كلمة “كلي” إعتباطيًا عندما أشير إلى “ضرورة إجراء إصلاحات في الإقتصاد. فكلمة “كلي” تعني الشمولية، والمقصود بالشمولية إلا يُصار إلى إنتقاء المواضيع التي تتطلب إصلاحات معينة مزاجيًا، أو وفق أجندة مجموعة من المصالح الشخصية لهذه الفئة أو تلك من الطبقة السياسية، أو تلك التي تتماشى مع ما يؤّمن لهذه الفئة أو تلك مكتسبات ظرفية تمامًا كما كان يحصل على مدى سنوات طويلة.
كلمة “كلي” وضعت في البيان لتوصيف حال عامة، وقد إختيرت بهدف وحيد، وهو وضع حدّ لأي محاول لتجزئة الإصلاحات، أي بمعنى ألا يصار إلى إدخال الإصلاحات التي تناسب وضعية كل فريق سياسي على حدة وبالتساوي في المحاصصة، الأمر الذي يجعل من فرصة إحراز اي تقدّم في المفاوضات مع الصندوق شبه مستحيلة، إن لم نقل مستحيلة في المطلق. فشروط الصندوق واضحة ولا تحتمل التأويل والتفسير والإجتهاد، ولا تحتمل أيضًا المماطلة والتسويف والتأجيل، بإعتبار أن ما هو ممكن اليوم قد يصبح متعذّرًا غدًا، خصوصًا أن الوقت لا يعمل لمصلحة لبنان في ضوء التطورات المتسارعة على الجبهة الروسية – الأوكرانية وتداعياتها الخطيرة، وما يمكن أن تسفر عنه كإرتدادات طبيعية لأي حرب على وضعية الدول الصغيرة، ومن بينها لبنان، أقله من الناحية الإقتصادية.
فأي “تأخير في إجراء الإصلاحات والتشريعات اللازمة سيؤدي إلى رفع كلفة التصحيح الاقتصادي في المستقبل”.
وقبل تفصيل كلمة “رفع كلفة التصحيح الإقتصادي” وما تعنيه بالتحديد لا بدّ من الإشارة إلى تشديد فريق صندوق النقد الدولي على الحاجة إلى بعض التشريعات المطلوبة قبل رفع البرنامج إلى مجلس إدارة الصندوق للموافقة النهائية عليه. فـ”التشريع” يقع على عاتق مجلس النواب، وليس أي مجلس، بل المجلس الذي سينبثق عن الإنتخابات التي ستجري في 15 أيار المقبل، أي بعد شهرين وبضعة ايام، حيث سيتحّول كل لبنان بعد إنقضاء مهلة تقديم الترشيحات في 15 الشهر الجاري إلى ورشة إنتخابية، وسينصرف النواب الحاليون، والذين سيترشح معظمهم لهذه الإنتخابات، إلى كتلة إنتخابية، ولا يعود العمل التشريعي في هذه الفترة الفاصلة أولوية لدى أغلبية النواب.
إذًا المطلوب من المجلس المقبل، وفي أول أولوياته، أن ينكّب على التشريع في مجال الإصلاح “الكلي”، والذي يشمل “إصلاح المالية العامة في المدى المتوسط، وإصلاح القطاع المالي، وتوحيد سعر الصرف، فضلا عن الإصلاحات الهيكلية، بما في ذلك الإصلاحات المتعلقة بتخفيف حدة الفقر، والحوكمة، والكهرباء”.
فهذه الورشة مطلوبة وبسرعة وقبل أن تصبح “كلفة التصحيح الإقتصادي” مرتفعة جدًّا، الأمر الذي سينعكس سلبًا على وضعية لبنان، إذ يصبح الوقت بالنسبة إلى اللبنانيين ثمينًا جدًّا، وذلك قبل الإنتقال إلى مرحلة تنفيذ ما يتمّ الإتفاق عليه بعد أن يقوم لبنان بما عليه أن يقوم به من تشريعات إصلاحية.