في لبنان ثمّة نوع جديد من المناعة، لا نعرف إذا كان داخليًّا وعن سابق إصرار ووعي. إذ ظهرت مناعة ضدّ مقولة “لا داعٍ للهلع”، فالشعب يبحث عن الشقّ الإيجابيّ دومًا، حتّى في أقسى حالات الفقر المدقع. بالطبع، ليست هذه الحالة عامّة، لكنّها أخذت بالتفشّي في الشارع اللبنانيّ، وظواهر التأقلم مع ارتفاع الأسعار الجنونيّ من دون أيّ ردّ فعل ملموس، ما هي إلّا عارض أساسيّ على أنّ الشعب قد تأقلم مع حالة الرعب والهلع الّتي يعيشها في تفاصيل حياته المعيشيّة. وهل من طريقة سليمة للخروج من حالته المريضة هذه؟
كيف يستطيع اللبنانيّ أن يتغاضى عن كارثة ارتفاع أسعار الوقود بطريقة جنونيّة في الأسبوع المنصرم؟ فقد أصبحت تكلفة الصفيحة الواحد تناهز الحدّ الأدنى للأجور، هل يخفّف ألمه أنّ الأزمة عالميّة وليست محلّيّة؟ أم أنّ ثمّة منافع إيجابيّة تعود عليه في هذه الحالة؟ وهذا أشبه بالمستحيل… ففي نهاية المطاف، ستكون آثار هذه الحمّى واضحة في ارتفاع شامل في الأسعار، وخصوصًا المواد الأوّليّة منها.أو كيف نفسّر تخفيف حالة الهلع عند ربّ الأُسرة وهو يعلم أن القمح إلى تلاشي، واليوم الّذي كانت “ماري أنطوانيت” نكتة من التاريخ، قد تُصبح في المستقبل القريب دراما حقيقيّة قد نعيشها قبل ظهور المسلسلات الرمضانيّة في أيّار المقبل. أتخفّف الأزمة الأوكرانيّة من حدّة أوجاعنا؟ فنحن إن “شفنا مصيبة غيرنا بتخفّ مصيبتنا”… أم هل أرقام تقارير البنك الدوليّ المرعبة لم تعُد تشغل بالنا؟ فاليوم، ثمّة أحداث ساخنة تأخذنا من معالجة همومنا ومواجهة حربنا الوطنيّة ضدّ الجوع، والبرد، والمرض…!
بالطبع، أصبحت الطريقة الّتي اتّبعتها الدولة في تخفيف حدّة صدمة الحالة الاقتصاديّة مكشوفة، فهي سحبت الدعم تدريجيًّا، ورفعت الأسعار تصاعديًّا، وبذلك خفّفت من احتمال ثورة معاكسة ضدّ الفقر، وما زالت تأخذ حذرها من مسألة تعرفة الاتّصالات والانترنت، خوفًا من تكرار سيناريو ١٧ تشرين. لكنّ المؤشّرات تدلّ على أنّها ستُقدِم عليها، لأنّ مواطني لبنان ٢٠١٩ ليسوا على شبه مواطني لبنان ٢٠٢٢،وقد يتأقلمون مع مصدر جديد للهلع، ما كانوا ليتحمّلونه في السابق. إذ كانت الطبقة المتوسّطة والميسورة موجودة بوجه أكبر في المجتمع، أمّا اليوم، فنرى أنّ معظمها قد هاجر، أو في طور الهجرة، أو ببسيط العبارة اندثر…الفقر ليس تصنيفًا يشمل الأفراد وحسب، بل الشركات والمؤسّسات، وفي ظلّ استطاعة بعض الشركات الكبيرة والحائزة على احتكارات “خارج القانون” يمكن أن تتّسع في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة، ستختفي الشركات والمؤسّسات الناشئة والمتوسّطة من السوق المحلّي بدورها، لأنّها وبكلّ بساطة لا تقع ضمن مصالح الطبقة الحاكمة أو “خططها الإنمائيّة”، ولن تستطيع النهوض من جديد، فمن يُعينها ومن يُقرضها؟ هل المصارف شبه المفلسة؟ أم الثقة الخارجيّة المنقرضة؟
هل يعود ويشعر الفقير بالهلع بعد أن حلم بالبطاقة التمويليّة والدعم الّذي سيأتيه على “طبقٍ إلكترونيّ” في بداية كلّ شهر “عَ المستريح”؟ أو حلمه بأن يُعامل معاملة اللاجئين في بلده كون هذه الفئة تحصل على مساعدات “بالأخضر”؟ هل يعي أنّ جميع هذه الأحلام وإن تحقّقت ما هي إلّا مجرّد كوابيس ستلازمه طيلة حياته لأنّه سيبقى أسير حالة تطفّل، من دون أن يتقدّم ويكدح ويتطوّر، ويخرج من عتبة الفقر؟في هذه الأيّام، ومن دون تحليلات سياسية معمّقة، يعي اللبنانيّ أنّ العالم الخارجيّ في تغيّر، وأن من كان “غافيًا” على أمل مساعدات خارجيّة تُنعشه، بات واعيًا أنّ “ما بحكّ جلدك إلّا ضفرك”، والعالم يسير على وقع الوسائل الإعلاميّة وصخبها، ليعود ويتلهّى بكوارث أُخرى… فلبنان لم يعد يتصدّر عناوين الصحُف كما في تشرين ٢٠١٩، أو آب ٢٠٢٠… وفي ظلّ مصالح دوليّة متشعّبة، لا نستطيع أن نعتمد على مناعتنا ضدّ الهلع راجين أن تصبّ هذه المخطّطات لصالحنا.في ظلّ إعادة التوازنات الدوليّة، على اللبنانيّ أن يُعيد توازنه السليم لنفسه، وألّا يعتمد في بقائه حيًّا على “مسكّنات خارجيّة”، بل على مصادره الداخليّة في التخطيط السليم، والتأقلم مع سوق العمل القائم على الإدماج الاقتصاديّ، والحلول المبتكرة، والمستدامة. والسؤال الأهمّ: كيف ينتقل من الهلع السلبيّ الّذي يخدّره، إلى القلق الإيجابيّ الّذي لطالما دفع الإنسان منذ بدء التاريخ نحو التقدّم والتطوّر؟ فالإنسان “حيوان قلِق” في طبيعته كما يقول الفيلسوف “سورين كيركيغارد”.