منذ انتخابات 2018 حتى اليوم، تغيّر الكثير في البلد. انفجر الاحتقان الجماهيريّ في تشرين الأول 2019، من خلال حراك شعبيّ غير مسبوق في التاريخ اللبناني الحديث. تفاوتت تسميات هذا الحراك، بين “ثورة” و”انتفاضة”، لكنّه نجح في إحداث “اهتزاز” في التركيبة السياسية العامة، وتحوّل إلى “مضرب مثل” لا يزال ماثلاً حتى اليوم.
لم يُكتَب لهذا الحراك أن “يصمد” بالثقل نفسه طويلاً، لأنّ الأزمات التي تراكمت منذ ذلك الحين، كانت أكبر منه، ومن قدرته على “المقاومة”، فشهد اللبنانيون على كلّ مراحل “الانهيار”، بعدما احتُجِزت ودائعهم في المصارف، وخسرت العملة الوطنية قيمتها، وارتفعت الأسعار بصورة جنونية، وسقط “الدعم” عن كلّ المنتجات، الأساسيّة منها قبل غير الأساسيّة.
لكلّ هذه الأسباب، كان “رهان” كثيرين على انتخابات 2022 لتشكّل “مَدخَل الحلّ”، فإذا بملامحها الأولية “تفضح” ما لم يتغيّر منذ 2018 حتى اليوم: تباينات وخلافات ما تسمّى بـ”قوى التغيير”، التي تستعدّ لخوض الانتخابات وفق “التكتيك القاتل” نفسه، بلوائح متعدّدة ومتباينة في مختلف الدوائر، وهو ما دلّ عليه بوضوح رقم مرشحي “التغيير” الهائل!
خلافات وتباينات
يقول العارفون في الكواليس الانتخابية إنّ “الخلافات” بين قوى المجتمع المدني أضحت “أمرًا واقعًا”، وإنّ الرهان على “اتحادها” في لوائح موحّدة أصبح “مهمّة مستحيلة”، بل إنّ هذه القوى ستخوض المعركة في بعض الدوائر بأكثر من لائحتين، بل بلوائح قد تصل إلى عدد أصابع اليد الواحدة، نظرًا لاختلاف الأولويات بين المجموعات المتنوّعة، وربما لـ”حبّ السلطة” حتى لدى هؤلاء، ممّن يرفضون تقديم “التنازلات أو التضحيات”.
يتحدّث العارفون عن اختلافات بالجملة بين هذه المجموعات، من بينها “تباينات” حول التحالفات، إذ بين المجموعات من يتمسّك بشعار “كلن يعني كلن”، ويرفض أيّ تحالف من أيّ نوع كان مع أيّ من الأحزاب التي كانت جزءًا من الحكومات المتعاقبة، ولو “انقلبت على نفسها” قبل أو بعد 17 تشرين، في مقابل قوى تعتبر انّ مثل هذه التحالفات، بحدّها الأدنى، ضرورية لإحداث الخرق المطلوب، وذلك من باب البراغماتية والواقعية.
إلى ذلك، ثمّة خلافات حول البرامج الانتخابية والأولويات لدى بعض المجموعات، ففيما يرفع البعض السقف إلى أقصى الحدود، يخوض بعضها الآخر المعركة من دون “رؤية واضحة”، وكأنّ المطلوب هو الدخول إلى البرلمان من أجل السلطة لا غير، علمًا أنّ هناك أيضًا خلافات على الأسماء، حيث تصرّ المجموعات على “إسقاط” بعض الأسماء، من دون الخضوع لأيّ معايير واضحة، ما يسهم في زيادة الاحتقان والخلافات.
تشتيت للأصوات
هكذا، يبدو مسلَّمًا به أنّ مجموعات المجتمع المدني ستخوض الانتخابات بلوائح متباينة في معظم الدوائر، في “تكتيك” جُرّب في عام 2018، وقد تمّ تبريره يومها بمقولة “في التنوّع غنى”، والتي ثبت أنّها لا تصلح في هذا المضمار، وبالنظر إلى تعقيدات القانون الانتخابيّ الساري المفعول، وهو ما تجلّى في النتيجة بخسارة جميع مرشحي المجتمع المدني لصالح قوى السلطة، باستثناء النائب بولا يعقوبيان التي حقّقت “الخرق اليتيم”.
ولعلّ المشكلة الأساسية التي يتسبّب بها “تعدّد” اللوائح تكمن في “تشتيت الأصوات” بشكل واسع، فضلاً عن “ضياع” الناس الراغبة بالتغيير، أمام كثرة المشاريع “الطموحة”، وهو ما يؤدي إلى عدم حصول أيّ من اللوائح على “الحاصل الانتخابي” الذي يشترطه القانون من أجل “التأهّل” للفوز بمقاعد، وهو بذلك يقدّم “هدية مجانية” لقوى السلطة، التي تستفيد من ذلك لتعزيز “موقعها”، وتفادي حصول أي “خرق” لها من قبل اللوائح المتنافسة.
لكلّ هذه الأسباب، يعتقد الخبراء الانتخابيون أنّ “مصلحة” قوى التغيير تبقى بالدرجة الأولى في “توحيد” المنافسة، إذا كان الهدف فعلاً إلحاق “الهزيمة” بقوى السلطة، التي بات بعضها أساسًا يعمل على تشكيل أكثر من لائحة لزيادة “التشتّت”، وبالتالي قد يكون المطلوب من هذه القوى إعادة النظر في طريقة مقاربتها الانتخابات خلال الأيام المقبلة، وقبل تركيب اللوائح بصورتها النهائية، تفاديًا لـ”ندم” يوم لا “ينفع الندم”.
يعتقد كثيرون أنّ الانتخابات المقبلة ستشكّل “فرصة” للجيل الجديد والوجوه الجديدة لخوض عمار العمل البرلماني والشأن العام، وهو ما دلّت عليه أساسًا لوائح المرشحين للانتخابات، التي تصدّرت نسبتها الأعلى الفئة الشابة الناضحة بين 35 و45 عامًا. لكن كلّ ذلك يبقى “مرهونًا” بطريقة المقاربة، التي من شأنها أن “تطيح” بكل الآمال، وتبقي “القديم على قدمه”، رغم كلّ الأزمات والمحن!