لا يمرّ يوم من دون أنّ تُؤثر التجاذبات السياسيّة بين مختلف الافرقاء المتعارضة في ما بينها، على ضرب كلّ ما تحاول الحكومة إنجازه في فترتها القصيرة. من التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، إلى المعركة ضدّ المصارف وإدخال تعديلات في اللحظات الاخيرة على قانون الانتخابات، و”الميغاسنتر” بهدف تطيير الاستحقاق أو تأجيله، كلّ هذه “العصي” والمفاجآت توضع أمام حكومة تعمل بأصعب ظروف يمرّ بها لبنان من أجل إيجاد حلول إقتصاديّة تُعيد للبلاد الحياة. وكأنّ البعض لا عمل لديه إلا إفشال محاولات التعافي. وكان لافتاً ردّ رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي خلال كلمته يوم أمس، أثناء مغادرته مجلس النواب. فشدد على الثوابت التي تشكّلت على أساسها حكومته وهي: الانتخابات والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي. ومن دون خوفٍ، ذكّر بما أراده البعض عن خبثٍ، بطرح الثقة بالحكومة. فجدّد على أنّ جدول أعمال حكومته معروف سلفاً لدي جميع الافرقاء، ولا شيء مخفيّاً.
في السياق، جميع مكوّنات الحكومة ومجلس النواب على علمٍ بأنّ مجلس الوزراء يقود المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. والجميع متوافق على ضرورة المفاوضات، باستثناء البعض من الذين لديهم ملاحظات على شروطٍ معيّنة. كذلك، الجميع على علمٍ أنّ شروط الاخير قاسيّة، ومن أبرز مقترحاته “الكابيتال كونترول”. فعلى الرغم من أنّ إقتراح القانون لدى مجلس النواب منذ شهرين، وأُضيفت عليه ملاحظات صندوق النقد، كما طلب النواب، أُسقط في جلسة البرلمان يوم أمس. وأطُلقت التحاليل الرنانة عن أنّه يستهدف المودعين ويعطي صلاحيّة مطلقة للحكومة ومصرف لبنان. ويسأل مراقبون إلى أنّ ثلاث سنوات تقريباً مرّت على الازمة الماليّة، فلماذا الغيرة الان على أموال المودعين، والحملة على المصارف، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة؟ ولا يُخفى على أحد السبب وراء هذه الخطابات. فـ15 أيار على الابواب. والجميع يُصوّر نفسه أمام المواطنين على أنّه سيُعيد أموالهم لاهداف تسويقيّة إنتخابيّة واضحة. فهل المطلوب إفشال المفاوضات مع صندوق النقد، بالتزامن مع زيارة وفده إلى بيروت؟
في الاطار عينه، دعا الرئيس ميقاتي إلى التكاتف والعمل بين جميع مكونات الحكومة ومجلس النواب لايجاد الحلول البناءة. ومن دون هذا التعاون، وإستمرار منطق التعطيل، من الصعب النهوض بالبلد. ويُشير مراقبون إلى أنّ هذا التكافل بين السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة، ينسحب على سبيل المثال على المفاوضات مع صندوق النقد، والتصويت على “الكابيتال كونترول” بعد دراسته، وإقتراحات قوانين كثيرة والتي هي بحاجة أساسيّة لتصويت النواب. ومن دون التوافق بين السلطتين، كيف تنجح المحادثات مع الجهات الدوليّة وكيف يستعيد لبنان عافيته الاقتصاديّة، وخصوصاً إنّ بقيت بعض الاطراف السياسيّة تمتهن لغة التعطيل لمكاسب إنتخابيّة؟ فمنذ اليوم الاوّل من توليه رئاسة الحكومة، طلب ميقاتي من الجميع إعتماد لغة الحوار والتعاون. أمّا ما حصل في ما يخص “الكابيتال كونترول” أمس، فيُعتبر تضليلاً وعرقلةً لمسار التعافي، عبر رفض أغلبيّة النواب حتّى مناقشة إقتراح القانون وإعطاء الملاحظات حول بنوده.
وفي السياق أيضاً، ورغم أنّ جميع الاطراف مع خوض الانتخابات في موعدها في العلن، إلا أنّها تعمل في الخفاء على تطييرها، وضرب صورة لبنان أمام المجتمع العربي والدولي، الذي، كما قال الرئيس ميقاتي مستعدّ لاقصى الحدود لتقديم المساعدة، ولكن الاهم أنّ يبدأ أبناؤه بمساعدة أنفسهم، عوضاً عن انتهاج التعطيل. وهذا ما يُشدّد عليه على سبيل المثال وزير الخارجيّة الفرنسيّة جان إيف لودريان في كل مناسبة. فمن دون اتّحاد الجميع، والمشاركة في دراسة الاقتراحات التي تساعد لبنان في النهوض، وتسهيل العمل مع صندوق النقد الدولي، كيف نخرج من الازمة التي نمرّ بها؟
ولولا إلتزام الحكومة أمام المجتمع الدولي بإجراء الانتخابات في موعدها الدستوريّ، ولولا الازمة التي تمرّ بها البلاد، لكانت استقالت. لذا، فإنّ إستمراريّة الحكومة كما أكّد الرئيس ميقاتي، هي الضمانة نحو تطبيق كلّ ما ذُكر. أمّا العكس، فيعني إنهياراً أكثرَ، وتمديدا لمجلس النواب واستقالات جماعيّة، وصولا إلى فراغ رئاسيّ. ومن هنا، فإنّ الطريق نحو التعافي رسمتها الحكومة منذ تشكيلها. الانتخابات أوّلويّة وطنيّة ودوليّة، على أساسها سيتحدّد المشهد السياسيّ في البلاد للسنوات المقبلة. وإكمال المفاوضات مع صندوق النقد، وتطبيق الاصلاحات في القطاع المصرفي، والتدقيق الجنائيّ في كافة مؤسسات الدولة، وإقرار “الكابيتال كونترول” حاجة أساسيّة للبدء بإعادة الاموال للمودعين، وتثبيت سعر صرف الدولار، وإيقاف التدهوّر النقديّ والماليّ والاجتماعيّ. في المقابل، فإنّ من شأن أي عرقلة أنّ تُؤخّر تحقيق هذه الاهداف.