ليس خافيًا على أحد أنّ الوضع الحاليّ في لبنان ليس “مثاليًا”، في ظلّ الأزمات المستفحلة التي لا تنتهي، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، والتي ما عاد الكثير من المواطنين قادرين على تحمّل تبعاتها “الدراماتيكية”، وعلى أبواب انتخابات توصَف بـ”المفصليّة”، فيما يستبعد كلّ العاملين على خطها أن تفرز أيّ تغيير جوهريّ يمكن البناء عليه في حقيقة الأمر.
لكن ليس خافيًا على أحد أيضًا أنّ الحكومة التي جاءت بعنوان “الإنقاذ”، وحيّدت نفسها بشكل أو بآخر عن العمل الانتخابيّ، مع التزامها بإجراء الاستحقاق في الوقت المحدّد من دون أيّ تعقيدات تُذكَر، تحاول المواجهة على طريقتها، وقد بدأت تراكم “الإيجابيات” التي وصلت إلى “ذروتها” أمس مع الاتفاق “المبدئي” الذي تمّ كشف النقاب عنه مع صندوق النقد، والإعلان بالتوازي عن عودة السفيرين السعودي والكويتي إلى بيروت بعد “قطيعة” استمرّت أشهرًا.
وإذا كان “الحدثان” سالفا الذكر وُصِفا من قبل العديد من الأوساط بأنّهما “إنجاز” يُسجَّل للحكومة ولرئيسها نجيب ميقاتي، الذي بذل دورًا أساسيًا في بلورتهما، من خلال جهود ماراثونية استثنائية تُحسَب له، فإنّ الأكيد أنّهما لا يشكّلان سوى “البداية” في مسار يفترض أن يكون طويلاً، وربما مليئًا بالألغام، ولا سيما أنّ “العبرة” تبقى في المواكبة والتنفيذ، وعدم وضع العراقيل وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وهنا بيت القصيد.
الاتفاق مع صندوق النقد
بالنسبة إلى الاتفاق مع صندوق النقد، يؤكد العارفون والمتابعون أنّه “إنجاز حقيقي” طال انتظاره، وأنّه يشكّل “بداية” مسار يتطلّع إلى اللبنانيون منذ فترة طويلة، ولو أنّ الاتفاق ليس نهائيًا بعد، طالما أنّه لا يزال “مبدئيًا”، وعلى مستوى الموظفين، وأنّه “مرهون” بجملة من الشروط التي نصّ عليها، والتي سارع “المشكّكون” كالعادة إلى القول إن تطبيقها “من سابع المستحيلات”، ولذلك ربما مبرّراته استنادًا إلى التجربة اللبنانية “المُرّة” مع الإصلاحات.
وبمُعزَلٍ عن الحكم على النوايا، فإنّ “العِبرة تبقى في الخواتيم”، كما يقول العارفون، علمًا أنّ الظروف اليوم لا تشبه أيّ ظروف سابقة، وأنّ هناك “شبه إجماع” على وجوب الانطلاق من مكان ما، بدليل أنّ القوى التي كانت ترفض المفاوضات في صندوق النقد عادت واقتنعت بضرورتها، وقد يكون “ترحيب” رئيس مجلس النواب نبيه بري وإعلانه استعداد البرلمان لمواكبة الاتفاق، مؤشّرًا مهمًّا في هذا الإطار، نظرًا للدور المطلوب من السلطة التشريعية.
ولا يشكّ المتابعون بأنّ الشروط المنصوص عليها في القانون ليست سهلة، وأنّ الخيارات التي قد تكون الحكومة مضطرة للجوء إليها، بالتعاون مع مختلف القطاعات المعنيّة، ستكون قاسية، حتى إنّ هناك من علّق على الأمر بالقول إنّ “مرحلة الوجع بدأت الآن”، ولو أنّ كلّ التقديرات تشير إلى أنّها مؤجَّلة لما بعد الانتخابات النيابية، إلا أنّ هذه المرحلة أصبحت بحكم الأمر الواقع ضرورية، للوصول إلى مرحلة “التعافي المالي”، بعد وقت قد لا يكون قصيرًا.
عودة السعودية والكويت
بالتوازي مع إعلان الاتفاق “المبدئي” بين لبنان وصندوق النقد، كان لافتًا إعلان وزارة الخارجية السعودية رسميًا إنهاء مرحلة “القطيعة” وعودة السفير السعودي إلى بيروت، لتحذو دولة الكويت حذوها، وتعلن عودة سفيرها أيضًا قبل نهاية الأسبوع، في خطوةٍ كانت متوقَّعة، ولكنّها شكّلت دليلاً إضافيًا على “الانفراج” في العلاقات اللبنانية الخليجية، التي بات واضحًا أنّ الإخلال والإضرار بها ليس في مصلحة لبنان على الإطلاق.
وإذا كان هناك من ربط العودة المستجدّة بدور تستعدّ دول الخليج للعبه في لبنان، بعد انكفاء طال أمده، وخصوصًا على أبواب الانتخابات النيابية، التي يُنتظَر أن تكرّس الانقسام العمودي بين معسكرين أساسيَّين، بعد انخفاض الرهانات على “التغيير”، فإنّ هناك من يشير إلى أنّ هذا الدور “يتجاوز” الانتخابات ودهاليزها، ولا سيما في ضوء المرحلة الجديدة المنتظَرة، مع اكتمال الاتفاق مع صندوق النقد، الذي قد يفتح الباب من جديد أمام المساعدات الدولية.
ويبقى “التحدّي الأكبر” في مدى القدرة على “تحصين” هذه العودة، وتجنيبها أيّ “اهتزازات” جديدة، ما يجعل العين “مشدودة” باتجاه فريق “حزب الله” تحديدًا، ولا سيما أنّه في مرحلة “استقطاب انتخابي” غير مسبوقة، ولو أنّ كلّ المعلومات تشير إلى أنّه بدأ “حراكًا استيعابيًا” قبل هذه العودة، انطلاقًا من اعتقاده بأنّه برغم الخلاف السياسي، كان من أكبر المتضرّرين من “القطيعة”، التي لا شكّ تؤذي كلّ لبنان، وبيئته الحاضنة جزء منه.
لم يعد اللبنانيون يكترثون للوعود والأحلام، وكلّ ما يُحكى عن إيجابيات وآمال. التسليم بذلك أضحى أمرًا واقعًا، إذ إنّ تجارب الماضي غير البعيد تثبت أنّ الكثير من الوعود بقيت “حبرًا على ورق”. لكن، رغم ذلك، قد يكون “الرهان” على إيجابيات اليوم في مكانه، ليس لأنّ السلطة بمختلف فروعها ستتحوّل إلى “ملاك حارس”، ولكن بكلّ بساطة، لأنّ لا خيار آخر أمامها، ولأننا قد نكون أمام “الفرصة الأخير” للتعافي، وإلا!.