على رغم أهمية حدث إجراء الإنتخابات النيابية في موعده الدستوري وما قامت به الحكومة من جهود في هذا المسعى، وعلى رغم دخول وجوه “تغييرية” جديدة إلى مجلس النواب، فإن المشهد النهائي لهذه الصورة الفسيفسائية البرلمانية تظهر تفكّكًا واضحًا بعدما أصبحت كل الكتل “أقليات” متناحرة تمامًا كما هي حال لبنان. وهنا يصبح القول “كما تكونون يولّى عليكم” متطابقة مع الواقع إلى حدّ كبير.
فور إنتهاء “همروجة” الإنتخابات، خصوصًا أن أهمّ ما فيها أنه لم يحصل أي حادث أمني كبير، بإستثناء بعض المناوشات التي تُعتبر طبيعية، سمعنا كلامًا كبيرًا من أكثر من طرف. وهذا الكلام لا يبشرّ بأن الأمور سائرة إلى نحو ما يمكن الركون إليه، أو الإطمئنان إلى نتائجه، التي تبدو وفق ظواهر الأمور “كارثية”، أقّله على المستوى المعيشي للمواطنين، حيث إستغّل “الدولار” إنشغال الناس بالإنتخابات، فحّلق عاليًا، وحلّقت معه بطبيعة الحال أسعار كل السلع من صفيحة البنزين إلى ربطة الخبز…”وخود إيدك ولحقني”.
أمام هذا الواقع الجديد،تفرض على لبنان إستحقاقات دستورية عليه مواجهتها قبل الحديث عمّا يمكن أن تُصار إليه حال المواطنين المعيشية في حال الوصول إلى حائط مسدود وإلى أفق غير واضحة معالمه بالنسبة إلى ثلاثة إستحقاقات متتالية: إنتخاب رئيس جديد لمجلس النواب ونائبه، تشكيل حكومة في أسرع وقت ممكن، إنتخاب رئيس للجمهورية خلفًا للرئيس ميشال عون، في مدّة لا تتجاوز أشهر قليلة.
فالتكتلات النيابية الكبيرة لم تعد بتحالفاتها الجديدة كبيرة بالمعنى الحصري للكلمة، وهي أصبحت مضطرة لعقد تحالفات مع شخصيات مستقلة وقوى تغييرية لتتمكن من تمرير أي قانون، أو لتواجه الاستحقاقات المقبلة، التي أشرنا إليها.
وكما هو ظاهر فإن معظم الأحزاب الكبيرة، وهي “الثنائي الشيعي” وكتلة “القوات اللبنانية” وكتلة “التيار الوطني الحر” وكتلة الحزب التقدمي الإشتراكي”، فقدت قدرتها السابقة على اتخاذ القرارات وحدها من خلال تحالفاتها السياسية وما كانت تفرضه طبيعة الظروف الطارئة، وباتت ملزمة الآن بحشد أصوات النواب، نائباً بنائب، بدلاً من الطريقة السابقة التي كانت قائمة على تفاهمات بين رؤساء الكتل أو زعماء التيارات والأحزاب، مما كان يُعرف بالصفقات والتسويات وتدوير الزوايا على طريقة “مشّيلي تمشّيلك” فكانت النتيجة ما وصلت إليه البلاد من حال إفلاس.
وفي ظل النتائج التي أنتجتها هذه الإنتخابات بفعل قانون “غريب عجيب” يستبعد كثيرون أن تنجح التكتلات النيابية الكبيرة غير المنسجمة في ما بينها بسبب الخلافات السياسية حول عناوين أساسية كانت محور المعركة الانتخابية، وبالأخص بين “الثنائي الشيعي” من جهة و”الثنائي المسيحي – الدرزي” المتمثّل بـ”القوات” و”الإشتراكي”من جهة ثانية.
فقد أوصلت النتائج كتلتين من المستقلين والتغييرين تصلان إلى 25 نائباً، فضلاً عن أعضاء سابقين في تيار “المستقبل” يبلغ عددهم 6 نواب، وأعضاء كتلة “الكتائب” بـ5 نواب، وحزب “الطاشناق” بكتلة تضم 3 نواب و”المردة” بنائبين، و”حركة الاستقلال” بنائبين بعدما كانت نائباً واحداً.
كل هذا يحدونا إلى عدم الإطمئنان إلى أننا واصلون إلى المكان الصحّ، حيث إعتقد كثيرون أن في إمكان هذه الإنتخابات أن تكون بداية الإنفراج ليتبيّن لاحقًا أن التعقيدات لا تزال هي هي، وأن اللبنانيين الذين إقترعوا لهذا الفريق أو ذاك يرون أنفسهم أمام الدوامة نفسها، وأن “النواب التغييرين” لن يستطيعوا أن “يشيلوا الزير من البير لوحدهم” ما لم تكن هناك إرادة جامعة موحدّة على مشروع إنقاذي واحد، بعدما بات الجميع على دراية تأمة بأن “عقدة المنشار” هي في مكان واحد.