لا يختلف إثنان في لبنان على أن الإختلاف في وجهات النظر بين العديد من السياسيين والإقتصاديين من خبراء ورجال أعمال ونقابيين حول الآليات الواجب إعتمادها لإخراج لبنان من هوّة أزماته المالية هو أساس المشكلة المستحكمة بالبلاد، والتي تحول دون التوافق على رؤية موحدّة بالنسبة إلى ما يُسمى خطة تعافٍ، أو خطّة إنقاذية إستثنائية.
ولكن، وعلى رغم هذا الإختلاف، فإن ثمة قاسمًا مشتركًا بين كل هذه القوى السياسية والإقتصادية والمالية على أن لا بدّ في النهاية من إنقاذ القطاع المصرفي من واقعه، الذي لا يُحسد عليه، وهو بات اشبه بما كان عليه القطاع المصرفي الإيسلندي خلال الأزمة المالية التي مّرت بها إيسلندا إبان الأزمة المالية العالمية، حيث بلغ حجم ذلك القطاع المصرفي عشرة أضعاف حجم الإقتصاد. ولم يكن أحد يتوقع إنهياره لأن الجميع كانوا يعتقدون أن هذا القطاع هو أمتن من أن يقع. ولكنه على رغم هذه المقولة وقع القطاع المصرفي في المحظور، وإستلزمت عملية إنقاذه جهودًا مضنية لم تكن بالسهولة التي كان يتصّورها البعض.
وأمام هذا الواقع للقطاع المصرفي في لبنان لا بدّ في نهاية المطاف من توحيد الرؤية حول تشخيص الأزمة وأسبابها كمقدمة لازمة للإنطلاق نحو تشخيص موضوعي وموضعي للحلول الممكنة وفق ما تسمح به الظروف والمعطيات.
فالحديث عن إعادة هيكلة المصارف من شأنه أن يقود إلى نتائج إنقاذية عملية لا غنىً عنها، مع ما يترافق ذلك من الإعتراف بأن واقع بعض المصارف يحتاج إلى ما يشبه العمليات الجراحية للحؤول دون الموت السريري المحتّم. وأي كلام عن تعويم للمصارف المتعثرة أو الآيلة أوضاعها إلى الإفلاس يُعتبر مضيعة للوقت، خصوصًا أن تحميل المصارف الجزء الأكبر من خسائر ودائع الناس والتعويض عليهم سيدخلنا في دوامة المراوحة والدوران حول المشكلة من دون التوصّل إلى ما يمكن إنقاذه قبل فوات الآوان.
فإذا لم تتحمّل المصارف جزءًا كبيرًا من تبعات هذه الخسائر فإنها ستُلقى على الدولة، أي على الشعب مجدّدًا، بإعتبار أن الدولة كيان غير منفصل عن الناس. فتحميل الدولة هذه الخسائر أو قسم كبير منها يعني المزيد من جباية الضرائب من الناس لإستيعاب هذه الخسائر، أي تحميل المجتمع خسائر ناتجة عن خيارات ائتمانية اتخذتها المصارف بمعرفة كاملة بمخاطرها.
السؤال الأساسي والمركزي الذي يفرض نفسه عند إعداد أي خطة لإنتشال الإقتصاد من عمق إنهياراته هو: كيف يمكن خلق نمو إقتصادي من شأنه أن يوفر فرص العمل المناسبة لليد العاملة المتجهة أكثر فأكثر نحو الهجرة ؟ كيف يمكن خلق نسب نمو عالية ومستدامة ؟
النمو الذي يتحدث عنه كثيرون يحتاج أول ما يحتاج الى إستثمارات من الداخل أولًا، لأنه يجب عدم إنتظار عودة تدفق الرساميل من الخارج كما يجب خلال سنتين أو ثلاث إلاّ إذا تحققت الإصلاحات تدريجيًا بما يشجع المستثمرين في الخارج، ومن بينهم رجال أعمال لبنانيون.
وفي الوقت الذي يتجه فيه العالم الى موجات إضافية من الركود الإقتصادي بعد جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، وفي إنتظار تدّفق الإستثمارات الخارجية هناك ثغرة على الدولة أن اتسدّها من خلال في الإستثمار الأفضل لأصولها وليس التفريط بها.