عادت رابطة موظفي الإدارة العامة إلى الإضراب المفتوح بدءاً من صباح اليوم، رافعةً جملة من المطالب منها تصحيح الرواتب والمعاشات والتعويضات وفقاً لارتفاع مؤشر الغلاء أو وفقاً لمنصة صيرفة، وتقليل دوام العمل، إلى جانب عدد من النقاط المرتبطة بالمتقاعدين… لا يمكن إنكار التداعيات السلبية لهذا الإضراب على عمل الدولة من خلال مؤسساتها ووزاراتها، ومن أخطرها مثلاً إضراب موظفي وزارة المال الذي يوقف دخول الإرادات الضريبية إلى الخزينة مقابل تعطّل الصرف المتعلّق بنفقات الدولة ورواتب الموظفين. لكن، هل تحقيق هذه المطالب ممكن؟ وإن حصل هل يضمن تسيير شؤون المرفق العام بشكل طبيعي؟
أستاذ الاقتصاد في “الجامعة اللبنانية” البروفسور جاسم عجاقة يلفت لـ “المركزية” إلى أن “المواطن يرى الدولة من خلال مؤسساتها وأوّل مظهر من مظاهر الدولة هو الخدمات التي تقدمها هذه المؤسسات، ما يعني أن أي تعطيل للمؤسسات هو تعطيل لدور الدولة”، موضحاً أن “الدولة لم تعد قادرة على تأمين أمرين:
- أوّلاً، المقوّمات الأساسية كي يتمكن الموظف من الوصول إلى مركز عمله. ومنذ أن بدأ سعر صرف الدولار في السوق السوداء يرتفع لم يعد من قدرة للمواطن لا سيما لموظفي الدولة بدفع ثمن النقل ولا يمكن للدولة إجبار الموظفين على المداومة لأن راتبهم مع بدل النقل لم يعد كافياً لتغطية الكلفة والصعوبة الأكبر هي عدم مكننة مؤسسات الدولة. إلى ذلك، باتت كلفة النقل الباهظة جدّاً تفرض عملاً إدارياً إضافياً هو إعادة توزيع الموظفين بشكل يعمل فيه كل موظف في إدارة عامة ضمن منطقة سكنه.
- ثانياً، المقوّمات التشغيلية للمؤسسة بحدّ ذاتها. حتى لو عمل الموظفون وحصلوا على مطالبهم تواجه المؤسسات مشكلة تشغيلية لأن لم يعد بمقدور الدولة القيام بالمشتريات والإنفاق. حتى المُمَكْنَنّ منها (وزارة المال، الجمارك، الأمن العام…) لا يمكن تأمين الكهرباء فيه، نظراً إلى عدم توافر الأموال الكافية لشراء المازوت، هذا عدا عن انعدام القدرة على تأمين القرطاسية من أوراق وأقلام… باختصار، مقوّمات العمل في القطاع العام لم تعد موجودة”.
ويشير إلى إشكالية في تلبية المطالب، قائلاً “إذا افترضنا أن الحكومة وجدت التمويل ووافقت مثلاً على تحسين الأجور، فتسديدها يتم عبر القطاع المصرفي”، سائلاً “كيف يتم سحبها حينها؟ من أين تمولّها الدولة (مع العلم أن كلّ التمويل من مصرف لبنان)؟ وبفرضية القدرة على سحبها من المصارف ما من ضمانات للحفاظ على قيمتها في ظلّ التدهور النقدي اليومي”.
ويعتبر أن “تصحيح الأجور في الظروف الحالية ومن دون مداخيل للدولة، يعني تكبير الكتلة النقدية وكأن يتم الطلب من مصرف لبنان زيادة الطبع”، مضيفاً “صندوق النقد الدولي كان واضحاً حول هذه النقطة حيث وافق على المساعدات الاجتماعية وعارض تصحيح الأجور كون له تداعيات مستقبلية خطيرة إذ يؤخذ في عين الاعتبار العبء المالي على الدولة الناتج عنه. لذا، الحكومة عاجزة عن تلبية مطالب الموظفين، خصوصاً أنها تلتزم بمطالب صندوق النقد كي يساعدها وفقاً لتأكيدات المسؤولين”.
أما بالنسبة إلى الحدّ الممكن أن تصل إليه الأوضاع في حال بقيت الأمور على حالها واستمرّ الإضراب، فيشرح عجاقة أن “الموضوع غير منحصر بتلبية مطالب الموظفين لفك الإضراب، إلا أن المشكلة في الشق التشغيلي أيضاً”. ويرى أن “هذا مؤشر شديد الخطورة على أن البلد وصل إلى مرحلة تحلل المؤسسات التي من خلالها نرى الدولة، وهذا يعني أن لبنان يخطو خطوة إضافية نحو الدولة الفاشلة التي لا تعد لحكوماتها القدرة على تأمين العيش الكريم لمواطنيها وتفقد قدرتها على الوجود. وتجنب الذهاب نحو الفوضى المؤسساتية يتطلب تشكيل حكومة سريعاً وإصلاحات اقتصادية وإدارية وغيرها بما يضمن كرامة المواطن ومعيشته. الحكومات اللبنانية لم تقم منذ بدء الأزمة وحتى الساعة بأي إصلاحات اقتصادية، وتمويل مختلف المساعدات كان من مصرف لبنان، لا سيما للقطاع العام. لذلك، أصبح من الضروري جدّاً تشكيل حكومة قادرة على تنفيذ إصلاحات اقتصادية لا تكون مفروضة عليها ونتيجة إملاء خارجي، بل تأتي نظراً إلى حاجة المواطن اللبناني إليها لحفظ كرامته”.
ويختم “الإصلاحات الاقتصادية تطال بالدرجة الأولى النشاط الاقتصادي أي العمليات التجارية والإنتاج ولم ينجز أي إصلاح على هذا الصعيد. الإصلاح الأساسي الجوهري يكون لتحفيز النشاط الاقتصادي الكفيل بخلق الثروات وإمتصاص الخسائر. الخطة الحكومية تذهب باتّجاه واحد فقط لا غير ألا وهو القطاع المصرفي والثمن يكون على ودائع الناس، على عكس ما يقال، ولن يتمكّنوا من حماية الودائع تحت المئة ألف دولار. بكل وضوح من دون نمو اقتصادي لن تسير الأمور بالشكل الصحيح والاستثمارات بحاجة إلى ثقة التي تتطلب بدورها محاربة الفساد وقضاء مستقل والعديد من الأمور الأخرى. وبالتالي، فإن خطة الحكومة المبنية على توزيع الخسائر على بين المصارف والمودعين وبيع الذهب لتغطية قسم من الودائع، فهذه ليست بخطة إنقاذية…”.