بات لزاماً على رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل، أن يُعيدَ حساباته السياسيّة بعد الإستشارات النيابية المُلزمة التي أجريت، الخميس الماضي. فبعد رفضه التّام لتكليف الرئيس نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة العتيدة، وقفَ باسيل أمام مفترق طريقين: الأول وهو كيفية التعامل مع تكوين حكومةٍ جديدة يمكن أن تسلبَهُ حصانة سياسيّة بعد انتهاء عهد رئيس الجمهورية ميشال عون. فباسيل، يُدرك تماماً أن آفاق الانتخابات الرئاسية ضبابية، كما أنه يعي تماماً أن وجود حكومةٍ أصيلة لا يُمسك بأساس تفاصيلها، يعني أنّ إدارة البلاد في المرحلة الانتقاليّة اللاحقة قد خرجت من يدِه.
أما الطريق الثاني فهو الأهم، ويرتبطُ بكيفية “مُداراة” الحلفاء، لاسيما أنّ بعضهم آثر “الإنقلاب” على باسيل في تسميتهم لميقاتي رئيساً مكلفاً. فـ”حزب الله” اختار الأخير من دون العودة لباسيل، في حين أن كتلة “الطاشناق” عزلت نفسها عن توجهات رئيس “الوطني الحر”، وفضّلت تعبيد الطريق أمام ميقاتي من بوابةِ الالتزام بتسهيل الإصلاحات واستكمال ما بدأته الحكومة السابقة على صعيد الملفات الكُبرى.
هل بدأت الصراع بين “حزب الله” وباسيل؟
بدون باسيل، جاء ميقاتي رئيساً مُكلفاً لتشكيل الحكومة، ومن دونه أيضاً يُمكنه تشكيل حكومة. المُعادلة هذه قائمةٌ تماماً في السياق السياسي، وقد ساهم فيها “حزب الله” بقوّة تامّة. اليوم، بإمكان ميقاتي أن يدخل السراي مجدداً رئيساً أصيلاً من دونِ أن يعطي باسيل أي هامشٍ واحدٍ للتحرك في الحكومة أو السيطرة عليها. حتماً، الأمر هذا لن يُزعج الحزب “التقدمي الإشتراكي” ولا “القوات اللبنانية”، في حين أنه سيُرضي معظم نواب الطائفة السّنية. أما نواب “التغيير”، فهم في كوكبٍ آخر، وإلى حين ترتيب خلافاتهم وتذليل العقبات، يمكن للحكومة أن تُولد بدونهم وبعيداً عن شروطهم.
بموازاة كلّ ذلك، ينكشفُ بشكل واضحٍ أن “حزب الله” لا يُجاري باسيل في طموحاته، كما أنّه يدرك تماماً أنه لو حصل هذا الأمر، لدخلت البلاد في أزمةٍ وجودية تساهم في تكريس انقسامٍ كبير. يوم أمس، كان لافتاً التصريح المنشور لنائب “حزب الله” حسن فضل الله الذي تحدث عن “المتعاطين بسلبية مع الوضع الداخلي والذين يحاولون التعطيل دائماً ويسعون للفراغ في مؤسسات الدولة”، ويضيف: “في لبنان لدينا دستور ونظام سياسي وتركيبة طائفية معروفة، وبالتالي علينا أن نختار رئيسا مكلفا للحكومة، وهناك مجموعة من الخيارات، إما أن نذهب إلى السلبية، أو أن نختار من نرى فيه الأقدر على تشكيل حكومة، والأقرب إلى إمكانية أن يتفاهم معه الآخرون”.
كذلك، أكّد فضل الله إنه “انطلاقاً من ظروف البلد، والأسماء المطروحة، ومن الخيارات الموجودة، ومن مراعاة التوازن الداخلي، وحتى لا تشعر أي طائفة أو أي مكون أنه مستهدف، ذهبنا إلى الخيار الذي نراه أنه خيار هذه المرحلة التي هي مرحلة فاصلة بين تكليف رئيس لتشكيل الحكومة، وموعد الاستحقاق الدستوري الآخر الذي هو انتخاب رئيس للجمهورية، فوجدنا أنه في هذه المرحلة لا نستطيع أن نترك البلد بفراغ”.
في مقاربةٍ أساسية، يرى الحزب وخلفه رئيس مجلس النواب نبيه بري، أنّ أي “استعداء” للطائفة السنية في هذه الظروف بالذات، لن يُجدي نفعاً. إضافة إلى ذلك، ما يتبين هو أن الأميركيين والفرنسيين وحتى السعوديين، يرون في ميقاتي رجل المرحلة بكل تفاصيلها، إذ استطاعَ أن ينسج العلاقات مع الجميع، ويتعاطى بحكمةٍ ودراية في مختلف الملفات، في حين أنه لم “يُرخِ الحبل” لـ”حزب الله” تماماً لكنه لم يكسر العلاقة السياسية معه من بابِ الشراكة الوطنية.
“البرغماتية” التي تعاطى ميقاتي على أساسها هي التي ساهمت في جعله متصدراً المشهد السياسي العام من جهة، والمشهد ضمن الطائفة السنية بشكل خاص. واليوم، يُصبح لزاماً على الأفرقاء الأساسيين مثل “حزب الله” و “أمل”، الضوء الأخضر لكل جهةٍ تحفظ أُسس الطائفة السنية، باعتبار أن استعداءها يعني “ضرباً” لـ”ربط النزاع” الذي أسسه الرئيس سعد الحريري سابقاً مع “حزب الله”، وحصّنه ميقاتي معه بشكل أكبر، عبر التعاون الوثيق وسياسة الوسطيّة.
وسط هذه المشهدية، يتبين أن “حزب الله” منع باسيل من الإنقضاض على الطائفة السنية وإضعافها، ما يعني أنه ساهم في تطويقه أكثر وتكبيل حركته وحصره ضمن مشهدٍ معين عبر تحجيم قرار كتلته الذي تبين أنه لم يُقدّم ولم يؤخّر في حسابات الإستشارات النيابية المُلزمة. في المقابل، فإن باسيل لا يُمكنه السير بنواف سلام “نكاية” بالحزب، فالأمرُ هذا خطّ أحمر، وبالتالي يمكن لباسيل المُكابرة في تقسيم الحصص والغنائم، إلا أنه لا يمكنه رميَ قنبلة تسمية سلام في وجه “حزب الله”، لأن ذلك سيكلفه ثمناً سياسياً باهظاً، كما أنه سينقل البلاد إلى مرحلة انفجارٍ غير محسوبة.
على أيّة حال، ما يظهرُ تماماً هو أنّ “حزب الله” استكمل سياسة الحذر مع باسيل أكثر من غيره، في حين أن المراهنات على شكل الحكومة لا تُجدي نفعاً طالما أن حصة “الثنائي الشيعي” فيها مضمونة. لكن السؤال الأساس الذي يطرح نفسه بقوّة: كيف سيتعاطى “حزب الله” مع أساليب باسيل التعطيلية، وهل سيُعطي للأخير بوابة للعبور إلى حكومة يُمسك بمفاصلها؟
حُكماً، فإن رئيس الحكومة هو نجيب ميقاتي وليس جبران باسيل، وما قد يقوم به باسيل سينحصرُ في إطار التعطيل وستزدادُ النقمة السياسية عليا من جهة، وستتعزز النقمات النيابية عليه، حتى أن “حزب الله” سيرى نفسه مُحرجاً معه.
في خلاصة القول، رهانات باسيل العديدة ساقطة.. من جهة، تبخر حُلم “ضرب” الطائفة السنية، ومن جهة أخرى، ميقاتي عاد رئيساً مكلفاً رغم الرفض. ومن جهة ثانية، أي تعطيل سينعكس سلباً على رئيس “الوطني الحر”، في حين أن الكتل النيابية داخل مجلس النواب متناحرة ومشرذمة، ما يعني أن طريقه نحو قصر بعبدا، معقدة وملؤها العراقيل.