“وصلت الرسالة، وما النصر إلا من عند الله العزيز الجبار”. بهذه العبارات، أعلن “حزب الله” دخوله على خطّ مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، من خلال “عملية” نفذتها إحدى مجموعاته بعد ظهر السبت، وقامت على إطلاق ثلاث مسيّرات غير مسلحة ومن أحجام مختلفة باتجاه المنطقة المتنازع عليها عند حقل كاريش، للقيام “بمهام استطلاعية”.
مفاجئًا جاء تبنّي “حزب الله” للعملية من حيث الشكل قبل المضمون، ومن حيث المضمون بالدرجة الأولى، ومقتضبًا جاء أيضًا بيان العلاقات الإعلامية في الحزب حول العملية، التي اعتُبِرت “بطولية” على الأقلّ بالنسبة إلى جمهور “حزب الله”، الذي رأى فيها ترجمة “أمينة” لكلام أمينه العام السيد حسن نصر الله حين تحدّث عن خيارات مفتوحة “لمنع العدو من المباشرة بنشاط استخراج النفط والغاز من حقل كاريش”.
في المقابل، ثمّة من أحاط العملية ببعض “علامات الريبة”، فالتوقيت بدا غير مفهوم للبعض، قبل أن يتّضح الجواب الإسرائيلي الرسمي على العرض اللبناني، وهو ما دفع البعض للخشية من أن “تفرمل” العملية المفاوضات، وهو ما ألمح إليه “تهويل” بعض المسؤولين الإسرائيليين، معطوفًا على “الاستنفار” الأميركي الذي تُرجِم باتصالات “استيضاحية” بالقادة اللبنانيين، وسط مخاوف أكبر من أن تكون “الحرب على الأبواب”، ومن البحر هذه المرّة.
“مفارقات” في ردود الفعل
يستغرب المتحمّسون لعملية “حزب الله” الترويج لمثل هذه الأجواء “السلبية”، رغم أنّ العملية التي نفذها الحزب كانت “سلمية” إلى حدّ بعيد، ولم تتوخّ أكثر من توجيه رسالة، كان واضحًا من البيان الذي أصدره أنّها وصلت إلى المعنيّين بها، علمًا أنّ المسيّرات لم تكن مسلحة ولا ملغومة، لتبرير الاستنفار المُبالَغ به، كما أنّ مهامها كانت “استطلاعية محض”، بحسب بيان العلاقات الإعلامية، كما تسريبات الإعلام الإسرائيلي حول الأمر.
ولعلّ المفارقة الجوهرية في ردود الفعل على العملية بالنسبة إلى المرحّبين بها، تكمن في أنّ معظم المستنكرين والمستهجنين كانوا قبل أيام قليلة، يسخرون من صمت “حزب الله”، ويتساءلون كيف أنّه لا “يحرّك ساكنًا” أمام التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة لحقوق لبنان، شامتين بحديث قادته عن انتظار “الوقت المناسب”، وإذا بهم، بمجرد تنفيذ عملية “الحدّ الأدنى”، يستنفرون للردّ، ويعودون إلى “نغمة” احتكار قرار الحرب والسلم.
أما المفارقة الثانية التي يلفت إليها مؤيدو “حزب الله” والمتحمّسون لعمليته، والتي لا تقلّ شأنًا برأيهم عن الأولى، فتكمن في أنّ معظم من استنكروا واستهجنوا إطلاق مسيّرات غير مسلحة للرصد لا أكثر ولا أقلّ، هم أنفسهم “يطبّعون” مع تحليق المسيّرات الإسرائيلية اليومية في الأجواء اللبنانية، ولا يستنفرون لإدانة “الخرق” الإسرائيلي المتمادي، الذي يبدو أنّه أصبح برأي البعض في لبنان، أمرًا روتينيًا وعاديًا، وهنا الخطورة الكبرى.
“قوة لبنان في قوته”
بعيدًا عن هذه المفارقات في الشكل، تتفاوت وجهات النظر حول العملية وتوقيتها خصوصًا، فبعض خصوم “حزب الله” يقولون صراحة إنّ “إسرائيل هي المستفيدة منها”، باعتبار أنّها ستشكّل لها “ذريعة” للتنصّل من أيّ مفاوضات مع لبنان، بعدما تبيّن أنّ ثمّة موقفًا رسميًا تمثّله الدولة اللبنانية، وموقفًا آخر غير رسمي يمثّله “حزب الله”، ويلجأ إلى “القوة العسكرية” لفرضه، بعيدًا عن كلّ المعادلات الواقعية والمنطقية.
ويذهب هؤلاء أبعد من ذلك، ليفنّدوا “التوقيت غير المناسب” لعملية “حزب الله”، فهو سبق أن أعلن أنّه يقف “وراء” قرار الدولة اللبنانية، وهو ما لم يعكسه بيان العلاقات الإعلامية، الذي تحدّث عن “منطقة متنازع عليها” في حقل كاريش، بعدما تخلّت الدولة عن الخط 29، في العرض الأخير الذي قدّمته للوسيط الأميركي، الذي كان يُنتظَر أن يأتي بالردّ الإسرائيلي عليه خلال أيام، وقد أبدى “إيجابية واضحة” إزاءه في الأيام الأخيرة.
لكن، بخلاف هذا الرأي، يعتبر المحسوبون على “حزب الله”، أنّ هدف العملية “تقوية” الموقف اللبناني في المفاوضات، لا العكس، من خلال تذكير العدو بالمعادلة الأساس، وهي “قوة لبنان في قوته”، ولا سيما أنّ التسريبات المتداولة تؤشر إلى “قبول جزئي” للطرح اللبناني، ما يوحي أنّ الإسرائيلي الذي يواصل عمله في حقل كاريش قبل انتهاء المفاوضات، “يستقوي” على لبنان، وهو ما وجب وضع حدّ له، عبر تذكير بقدرات المقاومة، وهنا بيت القصيد.
بالنسبة إلى المتابعين، فإنّ “الحرب” لا تزال مُستبعَدة، إذ إنّ رسالة “حزب الله” الواضحة من مسيّراته “غير المسلحة”، هي أنّه “جاهز للاشتباك”، إذا ما فُرِض، وأنّ الظرف اللبناني الدقيق لن يكون “حائلاً” دون الدفاع عن حقوق لبنان البحرية. وإذا كان “الحزب” أكّد أنّ “الرسالة وصلت”، فإنّ غالب الظن أنّها لن تقود إلى “حرب” لا أحد يريدها في الوقت الراهن، لا في لبنان ولا في إسرائيل، ولا في أميركا بينهما!