في خطاب وصف بـ”الحربي بامتياز”، بنى الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله على رسائل “المسيّرات غير المسلحة”، ليطلق معادلة جديدة قوامها “كاريش وما بعد كاريش وما بعد بعد كاريش”، في “استعادة” لأجواء حرب تموز 2006، تزامنًا مع ذكراها السادسة عشرة، والتي طبعتها معادلة “ما بعد حيفا” الشهيرة، والتي لم تُمحَ من الذاكرة بعد.
لم يكتفِ السيد نصر الله بذلك، بل ذهب بعيدًا في “تصعيده”، معتبرًا أنّ التهديد بالحرب، بل الذهاب إليها “أشرف بكثير” من ترك الأمور تذهب إلى الانهيار، حيث “لبنان يُدفع باتجاه الانهيار والجوع والناس تقتل بعضها”، على حدّ قوله، في حين أنّ الحرب “لها أفق”، ويمكن أن تؤدي إلى “إخضاع العدو”، وبالتالي فرض الشروط عليه سواء في مستهلّها أو منتصفها أو آخرها.
لكنّ الأمين العام لـ”حزب الله” غاص في “أجواء الحرب” أكثر من ذلك، حيث وصل به الأمر إلى المقارنة بين الموت “شهيدًا” في الحرب أو في إشكال أمام الأفران أو محطات المقارنة، الأمر الذي يفتح الباب أمام سلسلة من علامات الاستفهام، فلماذا يدافع “حزب الله” عن خيار “الحرب” عمليًا؟ وهل يجهض بذلك “دبلوماسية” مفاوضات ترسيم الحدود القائمة حاليًا؟
هجوم “خارج السياق”
بالنسبة إلى خصوم “حزب الله”، فإنّ الهجوم الذي شنّه الأمين العام لـ”حزب الله” أتى “خارج السياق” للعديد من الأسباب والاعتبارات، أولاً لأنّه أتى في ذروة المفاوضات القائمة برعاية الولايات المتحدة، ما يهدّد في مكان ما بإجهاض المساعي الدبلوماسية التي يُبنى عليها، خصوصًا بعد الموقف “الموحّد” الذي أظهره لبنان خلال الزيارة الأخيرة للوسيط الأميركي إلى بيروت، والذي جاءت “مسيّرات” الحزب، معطوفة على كلام نصر الله بالأمس، لتبدّدها إلى حدّ بعيد.
ويقول خصوم الحزب إنّ “التحفظات” على ما جاء في كلام نصر الله تشمل أيضًا، إصراره على “احتكار” قرار الحرب والسلم، بل “مصادرته” موقف الدولة في هذا الإطار، وصولاً إلى “تشويشه” في مكان ما عليه، حيث جاء التهديد بالحرب ليناقض “الرسائل الرسمية” التي يتمّ إيصالها عبر القنوات الدبلوماسية، ما من شأنه أن يشكّل “إحراجًا” للدولة، خصوصًا أنّ هناك من فهم رسائل الحزب، وتراجعه عن مقولة وقوفه “خلف الدولة”، على أنه يقول “أنا الدولة”.
ويذهب خصوم “حزب الله” أبعد من ذلك، بانتقاد بعض ما ورد في خطاب أمينه العام من “تمجيد” لمنطق الحرب، وهو ما قد ينطوي في مكان ما على “استدعاء” لها، حيث بدا الحزب وكأنه “ينعى” مفاوضات ترسيم الحدود سلفًا، ويعتبرون أنّ محاولة تصوير الحرب وكأنّها “أفضل” من الانهيار و”أشرف” من الموت جوعًا “غير موفقة”، تمامًا كما الإيحاء بأنّ إنجاز المفاوضات وبدء عمليات الاكتشاف وربما الإنتاج، سيؤدي تلقائيًا إلى “إنقاذ” لبنان.
“قوة لبنان في قوته”
لكنّ الانتقادات والتحفظات، التي يقول المؤيدون لـ”حزب الله” إنّها كانت متوقّعة أساسًا، وإنّ السيد نصر الله أشار إليها في خطابه، تبدو أكثر من مستغربة بالنسبة إلى هؤلاء، الذين يتحدّثون عن “تكامل” مفترض، لا “تناقض” بين موقفي الدولة و”حزب الله”، فالدولة تستخدم الدبلوماسية والمفاوضات، والحزب يعزّز موقف الدولة، من خلال التذكير بنقاط القوة التي تمتلكها، وبمعادلة “قوة لبنان في قوته” الشهيرة.
ويستغرب المدافعون عن موقف “حزب الله” امتعاض بعض اللبنانيين من “التصعيد” في وجه العدو، تارةً بذريعة “مصادرة قرار الحرب والسلم”، وطورًا بحُجّة أنّ مثل هذا الموقف “يجب أن يكون منسّقًا” مع الدولة، في وقتٍ يفترض أن يتكاتف جميع اللبنانيين من أجل النجاح في “فرض شروطهم”، وبالتالي عدم ضياع حقوق لبنان النفطية والغازية، وهو ما يفترض أن يكون “محلّ إجماع” بين اللبنانيين، وهو ما تجلّى أساسًا عند بدء الاستفزازات الإسرائيلية.
ومع أنّ بعض مؤيدي “حزب الله” ذهبوا بعيدًا في التنظير لـ”الحرب”، بل ذهب بعض جمهوره الافتراضي لحدّ “تمنّي” الحرب اليوم قبل الغد، وهو ما أثار الكثير من الانتقادات، وربما التحفظات، فإنّ المدافعين عن وجهة نظر “الحزب” يؤكدون أنّ الموقف الرسمي هو ذاك الذي صدر عن السيد نصر الله، وجوهره أنّ الحرب ليست الغاية بحدّ ذاتها ولا يجب أن تكون، لكنها تبقى “أشرف” من القبول بضياع الحقوق، وبالتالي “فإذا فُرِضت فنحن لها”.
رغم الانطباع الذي ساد بعد خطاب السيد نصر الله بأنّه يمهّد لـ”الحرب”، وهو انطباع كرّسه أساسًا بعض جمهور “الحزب” الذي راح يطبّل للحرب، ويحتفل بقرب موعدها، يؤكد العارفون أنّ قيادة الحزب لا تريد الحرب، وأنّ جوهر الخطاب لم يكن “استدعاءها”، بقدر ما هو رسم “قواعد الاشتباك”، بل يعتبر هؤلاء أنّ احتمالات المواجهة العسكرية، رغم كل شيء، لا تزال “بعيدة” لأسباب واعتبارات كثيرة، تتجاوز في بعض جوانبها حدود لبنان!