صارو سنتين…قديش مشتقلك يا وطني!

19 يوليو 2022
صارو سنتين…قديش مشتقلك يا وطني!


قبل سنتين من الآن إتخذت قرارًا بترك لبنان نهائيًا بعدما ترآى لي إستحالة العيش في وطن أصبحت فيه الكرامة بسعر الفجل. 

يومها إنقسمت الآراء بين مؤيّد لهذا القرار، وبين معارض له، أو لنقل غير مؤيّد. 
الذين أيّدوني كانوا يرون، كما كانت عليه حالتي، أن لا مستقبل للبنان في المدى المنظور، وأن لبنان مسلوب الإرادة ومغلوب على أمره، وأن الحياة فيه لم تعد تُطاق، وأن الدولار سيطيح بالليرة كليًّا (كان سعر صرف الدولار سبعة الآف ليرة لبنانية)، وأن بلد النور ستجتاحه العتمة الشاملة، وأن ودائع الناس ستصبح في خبر كان، وأن الناس واصلون إلى حدّ إشتهاء “العضّة بالرغيف”، وأن الدواء سيختفي من الصيدليات، وأن المستشفيات ستكون مخصّصة فقط لمن يملك “فريش دولار”، وأن هذا الأخير سيحّلق عاليًا، مع إرتفاع مخيف في أسعار السلع الإستهلاكية والخدمات العامة، وأن كثيرًا من الأطباء والممرضين وأساتذة المدارس والجامعات سيضطّرون للهجرة القسرية إلى أقرب دولة عربية، حيث أبواب العمل مفتوحة أمامهم، وهم الدكاترة ونخبة النخب، وأن كثيرًا من المدارس والمعامل والمصانع والمتاجر ستقفل أبوابها بسبب الضيقة الإقتصادية، وأن الأمن الإجتماعي لن يعود متوافرًا، وأن الوضع السياسي آيل من سيىء إلى أسوأ، وأن أبواب الحلول الممكنة مقفلة، وأن قرار الحرب والسلم ليس في يد الدولة، وأن الإضرابات تتوالى حتى وصلت إلى موظفي القطاع العام. 
كل هذا سمعته من مؤيّدي قراري. وهذا ما وصلنا إليه بالفعل والواقع. كان ظنّهم في محلّه، وكذلك خوفهم من المستقبل ومن المجهول. 
أمّا الذين عارضوا قراري أو لم يؤيدّوه، وبدافع المحبة طبعًا، فلاموني وعابوا عليّ إعتباري الوطنَ مجرد فندق، نستبدله بآخر بسهولة عندما نجد الآخر أفضل من الأول لما يقدّمه من خدمات غير متوافرة في الفندق الذي قررنا إستبداله. 
سمعت كلامًا كثيرًا في هذا المجال من بعض الأصدقاء الصدوقين والمحبّين. منهم من تمنّى لي التوفيق في ما سعيت إليه، ومنهم من قال لي: “مطرحك هون ببلدك. وإذا كل واحد بيفكرّ بالطريقة نفسها التي فكرّت بها فمن سيبقى في لبنان، ولمن نترك هذا البلد الذي فيه رفاة الأجداد والأباء والشهداء؟” 
من أيّدني له وجهة نظر، وهو يتمنى لو أمكنه أن يفعل ما فعلته، ولكن ليس في يده حيلة. ومن لم يؤيّدني وفضّل لو بقيت أجاهد مع المجاهدين، وأصبر مع الصابرين، وأصمد مع الصامدين، له وجهة نظر أيضًا. 
فوجهتا نظر المؤيّدين والمعارضين تتكاملان في مكان ما، وتتنافران في مكان آخر. وأنا بين هذه وتلك تائه. أنحاز حينًا إلى الأولى، وأقتنع أحيانًا بوجهة نظر غير المؤيّدين. ولكن في نهاية الأمر، وبعد أن يحلّ السكون، أرجع إلى ذاتي وأراجع روزنامة حياتي، فلا أجد أجمل من وطني، ولن أصادف أطيب من شعبي، ولن أرتاح إلى حين أجلس تحت شجرة صنوبر أو سنديانة من صنوبرات وسنديانات ضيعتي. 
آه، كم إشتقت إليك يا وطني. كم إشتقت إلى الأهل والأحباب والأصدقاء. كم إشتقت إلى المطارح التي لا تزال فيها رائحة ذكرياتي الطويلة. كم إشتقت إلى الفوضى، إلى عجقة الطرقات، إلى صوت زمامير السيارات، إلى الوقوف في طوابير الإنتظار، إلى كلمة “إجت الكهرباء وراحت الكهربا، إلى “النقّ”، إلى التذمّر، إلى التفكير مجدّدًا بالهجرة. 
وأنا غارق في بحر كل هذا يصلني “واتس آب” من صديق من لبنان، يقول لي فيه: ما تواخذني مش راح فيني أحكي معك من اليوم وبرايح “video call”، لأن الفاتورة صارت بتوجّع. نيالك مطرح ما انت. برافو عليك أخذت القرار المناسب في الوقت المناسب. يا ريت بيصرلي هاجر حتى على “الماو ماو”. 
ومع كل هذا، يزداد شوقي إليك يا وطني يومًا بعد يوم.