عندما تمنى الرئيس نجيب ميقاتي في ختام كلمته في إفتتاح موسم ” أهلا بهالطلة”، ألا نصل إلى “العصفورية”، مرّت في باله بالتأكيد صور كثيرة تشير إلى أن اللبنانيين، أو بالأحرى المسؤولين بينهم، سيصلون إلى هذه “العصفورية” بكل معانيها الحسّية.
وأكثر الصور حداثة ما قامت به القاضية غادة عون عندما إقتحمت المصرف المركزي بهدف إعتقال حاكمه رياض سلامة.
مَن شاهد هذه القاضية، بهذه الحال الاستعراضية، لم تخطر بباله سوى أغنية الشحرورة صباح عندما غنت “ع العصفورية”.
من دون الدخول في جدلية الهندسات المالية التي أدّت إلى ما أدّت إليه من إنهيار لليرة اللبنانية بهذه الطريقة الدراماتيكية، وما مدى مسؤولية رياض سلامة عن هذه السياسة، فإن “بهلونيات” غادة عون أدخلت هذه القضية الحسّاسة والخطيرة، كمسرحية هزلية، في مهرجان “juste pour rire”، لتصبح هذه القضية على كل شفة ولسان، بعدما حوّلت هذه القاضية القضاء، أو بعضًا منه، إلى مهزلة، وإستباحت كل الأصول القانونية، من أجل تنفيذ “الأجندة” السياسية للجهات التي تأتمر بأوامرها، وتأخذ منها التعليمات والتوجيهات.
بهذه الطريقة وبأمثالها ينتقل اللبنانيون إلى “عصفورية” كبيرة. ومن بين الأمثال الكثيرة ما حصل مع المطران موسى الحاج. إنه مسمار يُضاف إلى مسامير القاضية عون في نعش القضاء اللبناني، وكان أول تلك المسامير يوم لم تُوقَّع مراسيم التشكيلات القضائية.
ولأن لا عدل من دون قضاء شريف وجريء وحرّ ومستقّل، فإن أساس الملك يبقى عرضة للسقوط عند حدوث أول هزّة أو خلل في التركيبة الهيكلية، التي يُفترض من أن تكون حيث المبدأ صلبة ومتينة ومحصّنة ضد الزلازل والهزّات.
فإذا كان كل قاضٍ يريد “أن يفتح قضاء على حسابه” فقل “على الدنيا السلام” و”تخبزو بالعافية”. لم تكن حال القضاء في السابق كما هو اليوم. لم يكن مسموحًا للقاضي أن يلبي الدعوات الإجتماعية العامة. مثله مثل الأسلاك العسكرية وكبار موظفي الدولة.
يوم كان الرئيس الياس سركيس مديرًا عامًا في القصر الجمهوري كان يمنع كبار الموظفين التابعين لإدارته من تلبية أي دعوة. كان متشدّدًا في هذا الأمر إلى أقصى حدّ، لأنه كان خرّيج مدرسة فؤاد شهاب. كان يعرف مدى تأثير المثل اللبناني المقزّز: طعمي التمّ بتستحي العين”. فلذلك كان يصرّ على عدم السماح لأي أحد بأن يتجاسر ويُطعم فم أي موظف خوفًا من أن تستحي عينه عندما يراجعه صاحب “العزيمة” بأمر أو بمعاملة فيها إلتباس.
فقصور العدل قد تحوّلت بمعظمها، حتى لا نعمّم، إلى صالونات سياسية حتى لا نقول إلى محميات، إذ أصبح كل قاضٍ معلّقًا بـ”كرعوبه” السياسي، ويحاول أن يشدّ لحاف القانون إلى صدره أو إلى ما تريده الجهة السياسية التي ينتمي إليها أو ينفذّ تعليماتها وأوامرها.
هكذا أصبحت قصور العدل أشبه بـ”عصفورية”. وعندما يصبح القاضي، أي قاضِ، رهن هذا المسؤول وذاك الزعيم وتلك المرجعية فلا عجب في أن تعود أغنية الشحرورة إلى الظهور مجدّدًا في الشوارع والأزقة، التي ستقود كلها إلى الحازمية. وما بين مستديرة العدلية ومستديرة الحازمية بضعة كيلومترات.
فما رأيناه مؤخرًا على معبر الناقورة، وفي مصرف لبنان، وقبله في مؤسسة مكتف، مشاهد لم يألفها اللبنانيون، إذ إستطاع الجسم القضائي المحافظة على وقاره وهيبته على رغم الحرب الأهلية، ومن ثم الوصاية السورية. أمّا اليوم فإن ما يقوم به بعض القضاة يخرج عن المألوف والمنطق السليم والمعقول والمقبول ليضعنا أمام معادلات جديدة قد تقودنا جميعًا إلى الجنون. وعندها لن تعود تكفينا “عصفورية” واحدة.