منذ تكليف رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة قبل شهرٍ من الآن، بقيَ رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي عاقداً العزمَ على الالتزام بكلّ مرحلةٍ وفق مقتضياتها الدستوريّة، إذ أصرّ على أن يسيرَ الملف الحكوميّ على وتيرته العاديّة من دون أن يدخل على خطّهِ بشكل مباشر.
حتماً، قد يكون برّي من خلال تحاشي وضع “ثقله” في الملف الحكومي، قد أرخى بظلالِ مرحلة الاستحقاق الرئاسي على المشهد مقارنة بباقي الإستحقاقات الأخرى، ولكن من دون أن يُظهِرَ ذلك بشكل واضح وجليّ. فعلى الصعيد السياسي، يُمكن لهذا الأمر أن يكون مُرتبطاً بيقينٍ لدى برّي مفاده أنّ تشكيل حكومة قد يكونُ أمراً شبه مستحيلٍ في ظلّ الوقت الضيّق قبل نهاية عهد رئيس الجمهورية ميشال عون. كذلك، أرادَ برّي وفق حنكته، أن تنتهي الفترة الأخيرة من ولاية عون وسط تخبّطٍ تام وذلك بمنأى عن الحسابات السياسيّة الأخرى التي ترتبطُ بحليفه الأوّل “حزب الله”.
رغم ذلك، فإنّ بري ما زالَ غير منخرطٍ بشكل جدي بالاستحقاق الرئاسي المُرتقب، وما يمكن استنباطهُ في ظل الوقائع الحالية هو أنّ رئيس مجلس النواب آثر الإنتظار لتبلور كافة المعطيات بشأن ما ستؤول إليه الأمور على طريق بعبدا، باعتبار أن الصورة ما زالت غير واضحة المعالم، وهناك إشارات يجب أن تتحقق قبل اتخاذ أي خطوة.
ما يتبيّن حتى الآن هو أنّ برّي لم يُفرج عن اسم أي شخصية لرئاسة الجمهوريّة، في وقتٍ راحت أطراف سياسية عديدة تسعى للعب على وترِ تحالفه مع “حزب الله” من خلال إسداء رسائلَ مفادها أنّ بري قد يسيرُ بخيار قائد الجيش جوزاف عون كإسمٍ جدّي للرئاسة، وهو أمرٌ قد لا يقبله الحزبُ وقد لا يوافق عليه.
ما يتم ترويجه بين الأوساط السياسية المختلفة قائمٌ على أمرين: الأول دفعُ برّي باتجاه الانخراط في معركة الرئاسة قبل الوقت المطلوب، وثانياً إحداثُ شرخٍ بينه وبين “حزب الله” الذي بات واضحاً تحفظه على وصول قائد الجيش إلى بعبدا.
في ظلّ هذا الحديث السياسي، تقول أوساطٌ مطلعة على أجواء بري لـ”لبنان24″ إنّ “الأخير لا يسيرُ بخيارٍ ينافي توجهات حزب الله، إلا أنه في المقابل قد لا يُسمّي من يريده الحزب أيضاً”، وتتابع: “في العام 2016، كان بري مُصمّماً على عدم انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، في حين أن حزب الله سار بذلك الخيار. ورغم ذلك، بقي التحالف والعلاقة لم تتعرّض لأي اهتزاز بعكس ما تريدُه بعض الأطراف”.
ومع أنه لا يُمكن حسمُ موقف برّي من أي شخصية بشأن رئاسة الجمهورية، إلا أنّ ما يمكن قوله هو أنّ رئيس مجلس النواب لن يخطو هذه المرّة بخطوةٍ بعيدةٍ عن التوافق مع الحزب. وحكماً، فإن ما يريحُ الجبهة الرئاسية في هذه المرحلة هو أنّ اسم النائب جبران باسيل يعتبر مُستبعداً عن السباق إلى بعبدا، وهو أمرٌ يجعل برّي يتحرّك بأريحية أكثر، علماً أن “حزب الله” لم يبدأ حتى الآن بمناقشة أي اسم لرئاسة الجمهورية، وهذا ما أكده الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في حوارٍ له، أمس الإثنين، إذ قال: “حزب الله لم يبدأ النقاش بعد بشأن الملف المذكور، وسيحاول البعض على طريقة حرق المرشحين القول ان بعض الأسماء هي من ترشيح حزب الله. لن نتحدث عن هذا الملف الآن، وأي موقف يخصنا سيصدر إما في بيان رسمي أو من خلالي أنا”.
واستتباعاً لذلك، فإنّ ما يتبثت أكثر فأكثر هو أنّ برّي لن يفتح الباب أمام أي سيناريو يمكن من خلاله الإنقضاض على “حزب الله” لا من خلال مجلس النواب ولا حتى عبر رئاسة الجمهوريّة. وكما حصلَ برئاسة الحكومة حينما رفض السير بأي خيارٍ يتنافى مع توجّهات الحزب، فإنّ برّي لن يسمح بتمريرِ ثغرة نحوَ التكتلات النيابية الأخرى التي تسعى لرصّ صفوفها في البرلمان ضدّ الحزب وحلفائه.
وبذلك، فإنّ برّي، وإن كان يرى إن الإستحقاق الرئاسي بعيد التحقق، إلا أنه يعملُ وفق قاعدة واحدة: منعُ الخصوم من الصعود، النجاح في إنهاء عهد عون وسط تخبّط تام، والركون نحو إتمام استحقاق الرئاسة استناداً لقاعدة الأكثرية المتحركة في مجلس النواب. وهكذا، يكون برّي قد مكّن “حزب الله” ومنع الإنقلابَ عليه داخلياً ونيابياً ورئاسياً أكثر من أي وقتٍ مضى.