الرهبان “البلديون” ينتخبون رئيسهم السابع والأربعين…إنه عمل الروح

27 يوليو 2022
الرهبان “البلديون” ينتخبون رئيسهم السابع والأربعين…إنه عمل الروح


يوم بعد غد الجمعة في 29 الجاري يدخل ما يقارب الثلاثماية راهب ينتمون إلى الرهبانية اللبنانية المارونية إلى قاعة القديس يوحنا بولس الثاني في جامعة الروح القدس في الكسليك لإنتخاب سلطة رهبانية جديدة. يصلّون. يتأملون. يستلهمون الروح القدس. ينشدون بصوت واحد، أمام مذبح واحد، مبتهلين الى الرب الواحد، تاركين وراء أسوار هذه الحجارة الصفراء الهموم الدنيوية.  

 داخل هذه الأسوار، يقف كل راهب أمام ضميره. يترك التأثيرات خارجًا. لا همّ له سوى همّ واحد، وهو الإنصات إلى إلهامات الروح. 
فإلانتخابات في الرهبانيات عمل مكمل لمسيرة الكمال في الحياة الرهبانية، حيث يترك شباب في مقتبل العمر حياة العالم وبهرجته، ويلتحقون بجماعة تكرّس ذاتها لخلاص النفوس، ولجعل العالم أجمل مما هو عليه، من خلال ثلاثة نذورات: الطاعة والعفة والفقر، حيث يتحدّ الراهب في صمته وصلاته وعمله اليومي بيسوع، فادي البشرية على صليب الإنتصار. 
 في هذا اليوم يجتمع الرهبان الآتون من كل أديرة لبنان والرسالات في الخارج، حاملين على أكتافهم إرث رهبانية عمرها ثلاثمائة وسبعة وعشرون عاماً لانتخاب رئيس عام يحمل الرقم 49 خلفًا للأباتي نعمة الله هاشم أو تجديد البيعة له في حال رغب إخوته الرهبان إعادة الثقة به، وهو يحتاج بذلك إلى ثلثي أصوات المجمع الإنتخابي زائد واحد، أي إلى 199 صوتًا، وفق القانون الرهباني، فيما يحتاج منافسه إلى نصف الأصوات زائد واحد، أي 150 صوتًا.  
إنه اليوم الوحيد الذي تفرغ فيه الأديرة من الرهبان. الأديرة التي فتحت أبوابها منذ مئات السنين لكل طالب خدمة روحية او حاجة اجتماعية. في هذا اليوم تغلق الابواب. ويتحلّق الرهبان حول المذبح. يترأس اجتماعهم الأب العام الحالي، ويناديهم أمين عام المجمع العام بأسمائهم. ينحني الراهب أمام القربان المقدّس. يتوجّه الى المذبح. يأخذ قصاصة ورق ممهورة بخاتم أمانة السرّ العامّة. فيختار كل راهب يختار “من يراه الأكفأ والأنسب للوظيفة – الخدمة المنتخَب لها” (بحسب ما أتى في قوانين الرهبانية).  
من يشارك في انتخابات السلطة العامّة في الرهبانية اللبنانية المارونية؟ وكيف تتم عملية الانتخاب؟ 
بحسب القوانين الرهبانية، التي صاغها المجمع العام في العام 2002 وصدّقها الفاتيكان في العام 2012، “تتألف الهيئة الانتخابية من جميع أبناء الرهبانية ذوي النذور المؤقتة” (مادة 216، بند 2). في الماضي كان تشكيل الهيئة مختلفاً. بحسب قانون الرهبانية الأول، الذي يعود الى العام 1738، كانت الهيئة الانتخابية تتألف من أفراد السلطة العامة ورؤساء الأديار ومندوب واحد ينتخبه رهبان الدير لتمثيلهم في جلسة الانتخاب وفي المجمع العام الذي يسبقها. بعد مئتي عام، صاغ الرهبان قانوناً جديداً حدّد مندوباً واحداً لكل خمسة رهبان عضواً في الهيئة الانتخابية. قانون العام 1960 ثبّت هذه الصيغة. ولكن الرهبانية لم تبق على “قانون الستين” فوضعت قانون 1974 الذي بقي قيد التجربة وكان الانتخاب فيه بواسطة “المناديب” باستثناء الانتخابات التي جرت عام 1986 بـ”الاقتراع المباشر السرّي”. فكانت تجربة ناجحة ثبّتها الرهبان في قانون العام 2002 وخطوة إلى الامام في الديموقراطية تؤكّد على الشفافية في الانتخاب. 
وماذا عن العملية الانتخابية؟ 
تنعقد الجلسة الانتخابية مباشرة بعد المجمع العام الذي يُعقد في نهاية الولاية ويضم، إضافة الى أفراد السلطة العامّة، رؤساء الاديار القانونية والمندوبين المنتخبين. في هذا المجمع يناقش الرهبان إدارة السلطة التي انتهت ولايتها بهدف تطوير الحياة الرهبانية والخدمة الراعوية والمؤسسات التربوية والزراعية لما فيه مصلحة الكنيسة والمجتمع. ينعقد المجمع على مدى ثلاثة ايام. يجري النقاش بحرّية مسؤولة وطاعة روحية. وفي اليوم الرابع ينضم الى الرهبان المجمعيين باقي الرهبان الذين يشكّلون الهيئة الانتخابية. ينادي أمين عام المجمع كل راهب بمفرده ابتداء من الأب العام وصولاً الى أصغر راهب بحسب نذوره المؤقتة في الرهبانية.  
في المرحلة الأولى ينتخب الرهبان الأب العام، يليها انتخاب المدبّرين العامّين الأربعة الذين يعاونون الأب العام في إدارة الرهبانية. يحترم الرهبان حتى اليوم الانتماء المناطقي في اختيار السلطة العامّة الذي ورثوه عمّن سبقوهم، ليس من باب الانغلاق الجغرافي إنما من منطلق الحفاظ على الأعراف والتقاليد في مؤسسة تجاوز عمرها الثلاثة قرون. ففي الماضي كانت السلطة العامة تتألف من أب عام واربعة مدبّرين من خمسة مناطق جغرافية بحسب التقسيم الكنسي: الشمال وجبيل وكسروان والمتن والشوف، تسمى مقاطعة.  
ربما يتساءل البعض لماذا نكتب عن انتخابات رهبانية؟ وربما يقول البعض، لماذا الغوص في تفاصيل انتخابات من المفترض ان تبقى داخل “حصن الدير”؟  
نكتب عن إنتخابات الرهبانية لأنها أولًا وأخيرًا جزء مكمّل للحياة الروحية لكل مسيحي، ولأن هذه الرهبانية بالذات إرتبطت عضويًا بتاريخ لبنان منذ تأسيسها، ولأنها أعطت على إمتداد هذا الردح من الزمن قديسين كثرًا رقدوا برائحة القداسة، عرف منهم مار شربل والقديسة رفقا والأب نعمة الله الحرديني والأخ إسطفان.  
ولأن هؤلاء الرهبان الذين سيجتمعون في جامعة الكسليك زرعوا حيثما حّلوا بذور الإيمان والرجاء والمحبة، وكانوا المثال الصالح لإخوتهم العلمانيين، في التقوى والإلتزام الطوعي والكّلي بنذورهم الرهبانية: الطاعة والعفة والفقر، فكانوا منارات إشعاع روحي وفكري وثقافي.