بعد نشر مقالتي عن إنتخابات “رهبنة القديسين”، إتصل بي كثيرون من إخوتي الرهبان، مستفسرين عن الأسباب التي دفعتني إلى التطرق إلى الوضع الداخلي للرهبانية، في الوقت الذي يعيش لبنان أخطر مراحله نتيجة تدهور أوضاعه السياسية والإقتصادية والمالية والإجتماعية والمعيشية.
أجبت أخوتي هؤلاء، بأن ما كتبته نابع من إيماني أولاً بأن للرهبانيات في شكل عام، وللرهبنة “البلدية” في شكل خاص، وهي التي لها فضل كبير عليّ، دورًا وطنيًا تاريخيًا أدّته منذ تأسيسها، وعبر مراحل كثيرة من تاريخ لبنان، حيث كان للرهبنانية مساهمات عظيمة في الدفاع عن كينونة لبنان النهائي كوطن للحريات وملجأ للمضطهدين في هذا الشرق، الذي شهد إضطرابات مختلفة ولم تكن أوضاعه مستقرّة. فكانت الرهبانية، ومن داخل الكنيسة، رأس حربة في الدفاع عن لبنان الشهادة، وعن لبنان الرسالة، وعن لبنان صيغة العيش الواحد، وعن لبنان الفريد والمتميز بإنتمائه العربي وإنفتاحه على العالم.
ما كتبته عن أمر داخلي لا علاقة به لاحد سوى لرهبان تركوا ما في هذا العالم من بهرجة وزيف لينصرفوا إلى خدمة الآخرين والصوم والصلاة في أديرة كانت ولا تزال منارات هداية وتوبة، نابع عن قناعتي بأن لهذه الرهبانية بعدها الروحي والاجتماعي، ولها إمتدادات وإشعاعات روحية، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلا، لأنها “رهبنة القديسين”، رهبنة شربل والحرديني ورفقا والأخ إسطفان، وكثيرين غيرهم غير معلنين مكرمين وطوباويين أو قديسين.
هؤلاء الرهبان، الذين فلحوا الوعر وحوّلوه إلى جنائن خضراء، هؤلاء الرهبان الذين لجأووا إلى الأديرة طلبًا للكمال من خلال نذوراتهم الثلاثة: العفة والطاعة والفقر، وأعمال التوبة وإماتة الذات وكبح الشهوات، غيّروا وجه لبنان الروحي والثقافي والحضاري ووضعوه على الخارطة الدينية العالمية، وليس فقط المسيحية الكاثوليكية.
هؤلاء الرهبان الذين وقفوا إلى جانب أهلهم، من كل الطوائف والمذاهب، موارنة وغير موارنة، أثبتوا بالممارسة أنهم متجذّرون في التاريخ وفي عمق الوجدان اللبناني.
من لا يذكر كيف وقفت الرهبانية، بشخص رئيسها العام الأباتي إغناطيوس داغر التنوري، وخلال مجاعة الحرب الكونية الاولى إلى جانب الناس، ووضعت أملاكها رهنية لدى الحكومة الفرنسية لإطعام الجائعين.
هي الرهبانية التي قدّمت أراضيها لإيواء اللاجئين الفلسطينيين بعد النكبة في العام 1948. وفتحت اديرتها في بداية الحرب اللبنانية لاستقبال النازحين والهاربين من الموت الذي حلّ بلبنان واللبنانيين.
كتبتُ ما كتبت لأنني أعرف ما لهذه الرهبانية العزيزة جدّا على قلبي من أدوار تربوية رائدة في المجتمع اللبناني، بدءا من يوم كانت المدرسة تحت السنديانة، إلى يوم إنتشار مدارس الرهبانية على مساحة الوطن، وقد تّعلم فيها كثيرون، ومن مختلف الطوائف، وقد أصبحوا أعلامًا لبنانية في كل المجالات.
ونذكر من هذه المدارس: المدرسة المركزية في جونيه، ومدرسة بيت شباب قبل إلى أن تتحّول إلى مستشفى، ومدرسة مار شربل في الجيه، ومدرسة عشاش، ومدرسة شكا، ومدرسة سيدة مشموشة وميفوق والحكلونية وحمانا ومار مارون في المعوش وغيرها الكثير، وصولًا إلى جامعة الروح القدس في الكسليك، وهي واحدة من أهم الجامعات اللبنانية.
ويكفي أن أول مطبعة في الشرق باللغة العربية لا تزال موجودة في دير قزحيا. فدور الراهب التعليمي لم يقتصر فقط على تعليم القراءة والكتابة، إنما تعداه الى الزراعة والحِرف، لذلك أطلق عليه الناس تسمية “معَلمي”، وكان لـ”الأخوة العاملين”، ومن بينهم الأخ إسطفان، أدوار مهمّة في إستثمار الأراضي الزراعية وإستصلاحها، وفي تعليم أهل الجوار أصول الزراعة وفن العمارة.
كتبتُ ما كتبت وأنا بعيد عن أرض القداسة الآف الأميال، في بلاد للرهبانية فيها وجود مميز، وهي كانت من بين أوّل من شعر بأهمية الانتشار اللبناني وضرورة الحفاظ على العلاقة معه. فالرهبان قصدوا المغتربات ليعيشوا مع المغتربين صعوبات الغربة ويتقاسموا معهم لقمة العيش الفقيرة كما فعل الرهبان الذين أسّسوا أوّل رسالة للرهبانية في جزيرة قبرص مع الهاربين من المجازر في منتصف القرن التاسع عشر.
فعلى مدى قرن ونصف القرن اصبح للرهبانية حضور في بلدان القارات الخمس حيث الانتشار اللبناني الماروني. فأديرتها ملتقى لجميع اللبنانيين، وكنائسها محجّ صلاة وتقوى وإيمان، واحتفالاتها تعبير عن عادات وتقاليد لن تندثر. لهذه الأسباب كلها كتبتُ ما كتبت عن إنتخابات داخلية، ولأنني لا أزال أنتمي إلى “رهبنة القديسين” روحيًا وثقافيًا، ولي فيها أحبّة وأخوة كثر، وأتطلع إلى أن تزدان بكوكبة جديدة من القديسين، خصوصًا أن في أديرتها ومحابسها أكثر من قديس، وهم على خطى شربل والحرديني ورفقا والأخ إسطفان سائرون.