فاجأت جمعيةُ المصارف الموظّفين والمودعين والتجّار بإعلانها الإضراب في الأيام الأولى من بداية الشهر، لم تأبه لحال الموظّفين الذين تآكلت رواتبهم وينتظرون سحبها وفق التعميم 161، بقصد الإستفادة من بضع مئات الليرات، بفعل الفارق بين منصّة صيرفة وسعر صرف الدولار في السوق الموازية، وأوحت في بيانها أنّ الإضراب مفتوح، وأنّ عودتها عنه رهنُ ما يتخذ من قرارات استجابةً لمطالبها، وفق ما ورد في بيان جمعية المصارف “إنّ المصارف العاملة في لبنان تعلن الإضراب ابتداءً من يوم الاثنين الواقع في 8 آب 2022، على أن تقرّر الجمعية العموميّة للمصارف الّتي سوف تنعقد في العاشر من آب، الموقف الّذي تراه مناسبًا في هذا الشّأن”.
إضراب المصارف أتى ردًّا على الدعاوى المقامة ضدّها، والتي وصفتها بـ “الدّعاوى الكيديّة الّتي تتعرّض لها المصارف “ولم توفّر في هجومها الجسم القضائي والأحكام القضائيّة الصادرة عنه، وهي بنظرها “أحكام اعتباطيّة وشّعبويّة تصدر عن مرجعيّات يتمّ اختيارها مسبقًا من المدّعين، لغايات لم تعد خافية على أحد”. ذهبت المصارف وجمعيتها في الوضوح، إلى حدّ تسمية السبب المباشر لإضرابها، وهو توقيف رئيس مجلس إدارة “بنك الاعتماد المصرفي ش.م.ل” في مطار بيروت منذ أيام، بسبب ورود شكوى جزائيّة بحقّه أمام النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان ، وأنّها ” لا تفهم أسباب التوقيف”.
إذن المصارف تنتقم من القضاء، وبعض رموزه الذين يتجرّأون على النظر في دعاوى المودعين ، وتتصدّى لأحكامه “الكيديّة” وفق توصيفها، من خلال استغلال سلاحها الوحيد، المتمثّل بإقفال أبوابها أمام الجميع وتعطيل معاملات الناس وتجميد قبض الرواتب، لتطويع كل من تسوّل له نفسه أن يسائلها عن مسؤوليتها في تبخّر الودائع وضياع الحقوق، خصوصًا أنّها تعبت من إفهام اللبنانيين أنّ المسؤولية بنظرها تقع كاملة على الدولة، التي تسبّبت منفردة بالأزمة المالية والإقتصادية الحالية. وعلى الرغم أنّه تمّ الإفراج عن رئيس مجلس إدارة بنك الإعتماد بكفالة مالية، إلّا أنّ الجمعية أبت إلّا أن تعلّم القضاة درسًا ضروريًا، لا يجب أن يغيب عن بالهم عند النظر بدعاوى مماثلة، خصوصًا أنّ هناك عددًا كبيرًا من الدعاوى القضائية المرفوعة بحق رؤساء مجالس إدارة المصارف.
“لم تكتفِ المصارف اللبنانية بأدائها تجاه المودعين الذين أودعوا جنى عمرهم فيها، واستولت على أموالهم، بل جاءت تعاملهم معاملة غير قانونية وغير مقبولة وكأنّهم يتسوّلون مستحقّاتهم بالقطارة” يقول نقيب المحامين في بيروت ناضر كسبار في حديث لـ “لبنان 24” مضيفًا “قلنا لهم ما الحلّ؟ اقترحوا ماذا تريدون؟ فأجابوا بأنّ الحلّ يكمن في مردود ثروة لبنان من النفط والغاز لأنّ الدولة اللبنانية أخذت الأموال. وهو حلٌّ كمن يبيع سمكًا في البحر. لقد اعتمدوا على شبكة علاقاتهم، وخصوصًا من نصحوهم بتهريب أموالهم إلى الخارج. كما اعتمدوا على بعض الإعلام الذي يروّج لهم ويدافع عنهم. ويتصرّفون كما يشاؤون، وإذا تحرّك القضاء صوّروا الأمر على أنّه استهدافٌ لهم. وإذا قلنا سوف نتقدّم بالدعاوى ضدكم طبقًا لأحكام القانون 67/2 يحرّضون علينا، قائلين إنّنا نسعى لإفلاس المصارف. بالنتيجة هم يملكون المال والنفوذ ويتحكّمون باللعبة وفق مزاجهم، والمودعون لا يملكون ثمن الدواء والطعام والإستشفاء، لأنّ أموالهم محجوزة في المصارف، وما حصل مع الممثل المرحوم بيار شمعون خير دليل على ذلك”.
تمضي المصارف في رفض إعادة الهيكلة وفي تحميل المودع كامل الخسارة، وها هي تتصدّى لمحاولة المودعين استرجاع حقوقهم باللجوء إلى المحاكم، فتتحامل الجمعية في بيانها على القضاء، وتتهم قضاة بعدم الإلمام بالحدّ الأدنى بقوانين خاصّة كالقوانين المصرفيّة والمحاسبيّة، وتستخدم في بيانها تهديدًا مبطّنًا للجميع لأنّ “الأوضاع الشاذة بلغت حدًّا لم يعد مقبولًا” وجدت المصارف نفسها “مضطرة إلى إصدر إنذار عام يكون دعوةً للجميع للتّعامل بجديّة ومسؤوليّة مع الأوضاع الرّاهنة”.
كسبار وصف لجوء المصارف إلى الإضراب احتجاجًا على التدابير القضائيّة بالوقاحة “جاؤوا اليوم وبكل وقاحة يعلنون الإضراب ردًا على الأحكام القضائيّة، علمًا أنّه يجب توقيف كل من تثبت تصرفاته غير القانونيّة من المسؤولين المصرفيين. أمّا إضرابهم فهو نوع من الهروب من أقل ما يمكن أن يقدّموه من خدمات، وللضغط على الرأي العام الذي لا يزال نائمًا ولم يتحرّك. وكذلك من أجل منعنا من تقديم دعاوى ضدّهم، بعد أن أرسلنا لهم الإنذارات ولم نستطع تقديم الدعاوى بسبب إضراب الموظّفين الأسبوع الماضي. وقد نصحني أحد المحامين بتقديم شكوى جزائّية بحقّهم، وندرس في نقابة المحامين هذا الإحتمال”.
تحاول المصارف تطويع الجميع، قضاء ومودعين وسلطة سياسية، تفتح باب الإضراب المفتوح، تهدم الثقة بدل أن تعيدَ بناءها، وتعمّق الهوّة أكثر بينها وبين الرأي العام. تداعيات إضرابها لن تقتصر على التأخير في قبض الرواتب، وفي سحب الكوتا الشهرية وفتات الودائع وفق التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان، وفي تعطيل كلّ المعاملات المصرفيّة، بل ستطال الأمن الغذائي، والحركة التجارية التي ستتأثر بعدم توفير الدولار وفق منصّة صيرفة، ولعّل أولى المؤشّرات السلبيّة بدأت تظهر بارتفاع سعر صرف الدولار، لنكون أمام فصل جديد من عذابات اللبنانيين من البوابة المصرفيّة.