في الشكل، توحي البيانات المتلاحقة لرئيس “التيار الوطني الحر” الوزير السابق جبران باسيل، أنّه فتح “الجبهة” مع رئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي، على خلفيّة التأخير الحاصل في تأليف الحكومة، سواء لأنّ الأخير “لا يريد” ذلك في الوقت الحاليّ، كما يزعم باسيل، ولو أنّه قدّم “مسودة متكاملة” منذ اليوم الأول لتكليفه، أو لأنّه لا يريد “التنازل” من خلال “الخضوع لشروط” باسيل، كما يرى آخرون.
لكن، في المضمون، يبدو أنّ الحملة غير المسبوقة التي يشنّها باسيل على رئيس حكومة تصريف الأعمال، “أكبر وأعمق” من مجرّد خلاف مع الرجل، حيث يتحدّث الكثير من المتابعون عن “رسائل مستترة” خلف سطورها تطال حليفه شبه الوحيد، أي “حزب الله”، الذي يبدو أنّ باسيل “ممتعض” من بعض خياراته، من الحكومة التي سمّى ميقاتي لرئاستها، إلى الرئاسة التي لم يحدّد حتى الآن موقفًا واضحًا منها، خلافًا لرغبة باسيل.
ولعلّ ما يثير الانتباه في سياق هذه “السرديّة” يكمن في أنّ “حزب الله” يلتزم الصمت منذ أعلن رئيس “التيار الوطني الحر” الحرب على الرئيس ميقاتي، فلا هو “سانده” في حملته بطبيعة الحال، رغم ما يحكى عن “تحفظات” لديه على بعض مواقف رئيس الحكومة، ولا هو حاول “الوساطة” من أجل تقريب وجهات النظر، مكتفيًا بـ”النأي بالنفس”، ربما ربطًا بالاستحقاق الرئاسي الذي بات “المتحكّم” بكلّ الأحداث والاستحقاقات.
ماذا يريد باسيل؟
يرى المتابعون أنّ رسائل باسيل من الهجوم على رئيس الحكومة المكلف تطال “حزب الله” بالدرجة الأولى، فهو يحاول القول للحزب إنّ إصراره على تسمية الرئيس ميقاتي رغم اعتراض “التيار الوطني الحر” الواضح والصريح، هو الذي أدّى إلى حالة “الفراغ الحكومي” التي نشهدها حاليًا، وبالتالي فهو يتحمّل مسؤولية في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه، من خلال عدم الاتفاق على شخصية “بديلة” كان يمكن أن تؤلف حكومة قبل نهاية “العهد”.
في “رسالة” باسيل إلى “حزب الله”، وفق هؤلاء، “غمز” من قناة الانتخابات الرئاسية أيضًا، باعتبار أنّ الحزب لم يُدلِ بموقفه منها بعد، ويكتفي المحسوبون عليه بالقول إنّه “لم يَعِد” أحدًا بشيء، في حين تشير التسريبات إلى أنّه “لا يمانع” وصول رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، رغم “فيتو” باسيل الواضح عليه، بل ثمّة من يؤكد “انفتاح” الحزب على خيار “التسوية الرئاسية”، ولذلك فهو يتريّث في إعلان أيّ موقف، بانتظار نضوج الظروف.
من هنا، يقول البعض إنّ باسيل يسعى لاستثمار “المعركة المفتعلة” من جانبه مع الرئيس المكلف، لجرّ “حزب الله” إلى نقاش واضح وصريح بالخيارات الحكومية والرئاسية، خصوصًا بعد الرسائل التي مرّرها له بوضوح في الآونة الأخيرة، من “شبه حصر” للمعركة بينه وبين رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، وهو المدرك أنّ “حزب الله” يضع “فيتو” على الأخير، بل ذهابه للحديث عن إمكانية “تقاطعه” مع جعجع على اسم واحد في حال تطلب الأمر ذلك.
موقف “حزب الله”
لا شكّ أنّ رسائل باسيل تصل إلى قيادة “حزب الله”، لكن لا شكّ أيضًا أنّ الأخير لا يزال يفضّل “النأي بالنفس”، بحسب ما يقول العارفون بأدبيّاته، وهو بالتأكيد لا يمكن أن يكون “طرفًا” في “المعركة” بينه وبين ميقاتي، انطلاقًا من حرصه على تفاهمه مع “التيار الوطني الحر”، واعتقاده بضرورة “تحصينه”، واقتناعه في المقابل بضرورة الحفاظ على علاقة “متوازنة” مع المكوّن السنّي، ولا سيما الرئيس نجيب ميقاتي القادر برأيه على “العبور بين الألغام”.
لكن “حزب الله” الذي ينأى بنفسه عن الهجوم المتبادل بين ميقاتي وباسيل يدرك أيضًا، بحسب العارفين، أنّ الاستحقاق الرئاسي ليس بعيدًا عن “منطق” باسيل، هو الذي يتعمّد منذ فترة تمرير الرسائل، من فوق وتحت الطاولة، تارةً بفرض “فيتو” على فرنجية، وطورًا باعتبار نفسه “ممرًا إلزاميًا” للرئاسة، إلا أنّه هنا أيضًا “ينأى بنفسه” لاعتقاده أن أيّ موقف سابق لأوانه قد يكلّفه كثيرًا، في حين أنّ إبقاء “الغموض البنّاء” قد يكون أكثر فائدة في الوقت الحالي.
مع ذلك، يقول العارفون بأدبيّات “الحزب” إنّ الأخير ليس “في وارد” استنساخ “سيناريو” الانتخابات الرئاسية الأخيرة، “كرمى لعيون” باسيل هذه المرّة، ليس لأنّ فرنجية لا يمكن أن يستسيغ ذلك كما فعل سابقًا، وليس لأنّ عون ليس باسيل بالضرورة، ولكن لأنّ باسيل يعرف قبل غيره، أن إقناع “حلفاء الحزب” بالتصويت له “شبه مستحيل”، بعدما ربّى على مدى سنوات “عداوات” مع معظمهم، ولو بقيت “مضبوطة” برعاية “الحزب”، إن جاز التعبير.
يراهن باسيل إذًا على “حزب الله”، بل يمتعض من “صمت” الأخير، حكوميًا ورئاسيًا. قد يكون ذلك مفهومًا، بعدما خسر “التيار الوطني الحر”، في سنوات حكم باسيل، كلّ الحلفاء، بل حتى الكثير من الأعضاء المؤسّسين، ولم يبقَ له سوى “حزب الله”. هكذا، تُفهَم “معركته” مع ميقاتي على أنّها “مربوطة” بالرئاسة، وتُقرَأ خلف ثناياها رسائل لـ”الحزب”، قد تتوسّع في المرحلة المقبلة، بانتظار أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا!