إن فاجعة كربلاء تدعونا اليوم قبل الغد إلى حتمية تنقية الذاكرة

9 أغسطس 2022
إن فاجعة كربلاء تدعونا اليوم قبل الغد إلى حتمية تنقية الذاكرة


ألقى النائب العام في الرهبانية اللبنانية المارونية والرئيس الفخري لجامعة الروح القدس – الكسليك الأب البروفسور جورج حبيقة خطابًا في مراسم عاشوراء في الجمعية الخيرية الإسلامية العاملية، راس النبع، قال فيه: “سماحةَ الشيخ علي الخطيب، نائبَ رئيسِ المجلسِ الإسلامي الشيعي الأعلى، المقاماتُ الروحيّةُ والسياسيّة والعسكرية والبلدية والاختيارية، الحضورُ الكريم. إسمحوا لي في مستهلّ كلمتي أن أسوقَ أسمى آياتِ الشكرِ إلى منظمي يومِ العزاء هذا، على دعوتي إلى المشاركة في الاستذكار الأليم لواقعة كربلاء في العاشر من محرّم، عامَ واحدٍ وستين للهجرة الموافق سنة ستِّ مئةٍ وثمانين ميلادية.

 
إن مقتلَ الإمامِ الحسين بنِ علي وأصحابِه ورجالِ أهلِ بيتِه يدعونا إلى التفكّر مليا في تاريخ البشر الكئيب والصراع الدهري بين ثقافة الحياة والمحبّة والتلاقي والتحاور والمعروف والصبر والتضحية والحرّية والعمل الدؤوب على الإصلاح المستدام وإحلال العدالة والسلام والرحمة والمساواة، من جهة، والإدمان على منطق العنف والقتل والقهر والاستبداد والظلم والتهميش والإلغاء، من جهة ثانية. في أُولى صفحات سفر التكوين في الكتاب المقدس، يطالعُنا مشهدٌ مأساوي ومروّع لبدايات البشرية: قايين يقتلُ شقيقَه هابيل. وهنا نسألُ بحقّ هل الإنسانُ مفطورٌ على العنف والتذابح والتناحر، ومدمنٌ على إلغاء من يعتبره عائقا أمام طموحاته وحائلا بينه وبين أحلامه؟ قام بعضُ الباحثين في أسباب اندلاع الصراعات الدموية وتداعياتها الكارثية على المجتمعات البشرية، باقتطاعٍ اعتباطيٍ لثلاثةِ آلافِ سنةٍ من تاريخ البشرية. فوجدوا أن البشرَ في تلك الفترة الزمنيّة تمتّعوا فقط بمئتينٍ وإحدى وسبعينَ سنةِ سلام. للوهلة الأولى يغتبطُ القارئ ويذهب إلى القول إن تاريخ الانسان ليس كلُّه حافلاً بالحروب، فهناك، والحمد لله عزَّ وجل، فسحاتٌ زمنيةٌ ترفلُ في الطمأنينة والهناء والسلام”.
وأضاف: “ويبقى السؤالُ الذي يقضُّ مضجعَنا: لماذا الانسانُ حوّلَ الزمنَ الذي أعطاه إياه الباري ليسعد فيه في التّحاب والتآخي والتضامن والتكامل، إلى تاريخِ فواجع؟ ألا يكفي التصدي للأمراض والأسقام، ومواجهةُ الطبيعة عندما تغضب وتتزلزل، وتُزبد وتُرغد سيولا جارفة ومدمّرة؟ ألا يكفي كلُّ هذا لكي ننصرفَ باندفاع مسعور إلى التعدي على ذواتنا بحروب عبثية ومدمِّرة لـمُدُنِنا وحواضرنا وأوطاننا وثقافاتنا وإرثنا وحضاراتنا؟ كيف لنا أن نُنقذَ الانسانَ من منطق العنف وإيديولوجيّة الحرب والتقاتل؟ نتغنى جميعا ونتباهى أن شرقَنا التاعسَ مهبطٌ للوحي الإلهي. لنعد إلى ذلك التراث الروحي العظيم والتراكمي والمكثف في العائلة الابراهيمية”.
 
وتابع: “إن فاجعة كربلاء إن هي إلا تغليبٌ لمنطق العنف وإلغاءِ الآخر والفكر الآخر، وإسقاطٌ مدوٍ لمبدأ الشورى، مبدأ التحاور وأخذ الرأي والسعي إلى بلورةِ رؤىً مشتركة، بعيدا من أسلوب الشدّة والغُلظة. فلفظةُ حوار في اللغات الأجنبية تتحدر من المفردة اليونانية dia logos التي تعني “من خلال الكلمة”. أي على الإنسان أن يعالجَ جميعَ شؤونِ حياته “عبر الكلمة” التي وحدَها تتآلفُ بشكل كامل مع جوهره الإنساني ومع علاقته بربّه وباريه. بالنسبة للإنسان العلائقي، لا شيءَ يعلو على الكلمة أو يسمو عليها. إنها البدايةُ والنهاية. من هنا أيُّ إسكاتٍ أو إخراسٍ للكلمة وأيُّ لجوءٍ إلى العنف إنما هو هزيمةٌ نكراء للإنسانية التي ننتمي إليها. فالشورى والإنسانيةُ متلازمتان لا تنفصلان”.
 
وأكد: “إن مأساة كربلاء هي محاولة يائسة لإلغاءِ حرّية الرأي والموقف، واستبدالـِها بفرض الفكر الواحد وإرساء مبدأ وحدة الشكل وإلغاء الفروقات. فالحرّيةُ هي وحدها التي تجعل من الكائن البشري إنسانا. والحرّيةُ تتجسّد في خيارات متعدّدة. لذا من يتوهّم أنه بصهر الرؤى والطروحات في بوتقة الفكر الأحادي والشمولي، وبالإكراه على تبني موقف واحد وسياسة واحدة، يحقّق علنا ما خطّط له سرا في قلبه، لن يتأخر طويلا حتى يُدركَ بمرارة أن لا قيمةَ لأيّ شيءٍ إن لم يكن ممهورا بالحرّية غيرِ المنقوصة والاقتناع الكامل. وحيث الحرّيةُ هناك التعدّدية. عملت فاجعةُ كربلاء على قهر الحرّية وترويضها جبرا، وعلى إلغاء مبدأ التنوّع، فلم تستطع إلى ذلك سبيلا، لأنها النقيضُ لمشيئة الباري في مخلوقاته ومبروءاته.
 
وختم الأب حبيقة: “إن فاجعة َكربلاء تدعونا اليوم قبل الغد إلى حتمية تنقية الذاكرة. إن تنقيةَ الذاكرة لا تعني البتة النِسيانَ وفُقدانَ الذكرى. بل على العكس تماما. في عملية تنقية الذاكرة، ينبغي أن نتذكّرَ الماضي في كامل تفاصيله وجزيئياته الكارثية والمسبِّبات المباشرة والبعيدة للمصائب التي حصلت، لكيلا نسمحَ لهذا الماضي الموجع أن يتسلّلَ مجدّدا إلى حلبة الحاضر. بغيةَ تشييدِ مستقبل على أسس الكرامة البشرية والعدالة والمساواة والسلام والمحبة، يجب أن نلجمَ الماضي ونعطّلَ مفاعيلَه وارتداداتِه. فالماضي يزمجرُ أبدا ويتوعّد. إذا ما حجرنا أنفسَنا في دائرة الإصغاء إلى آخات الماضي الأليم، نكونُ كمن يدورُ على نفسه في حلقات مفرغة وعبثية. وعندها يتحوّلُ الآتي من الأيام إلى ماضٍ مستدام، يتوالدُ أبدا من ذاته في حضن الفواجع. ليس من الممكن أن نبنيَ مستقبلا لأجيالنا القادمة إذا ما اعتقلناهم في زنزانات الماضي وبلاياه.