منذ ست سنوات يستفيق اللبنانيون على أزمة وينامون على صدمة، ومن هم في السلطة يتلهون بمعارك “طواحين الهواء” وبالبروباغندا السياسية الشعبوية غير آبهين ببلد يتأرجح على حافة الانهيار الكلي، وبشعب وصل الى مرحلة الاختناق بعد أن قطعوا عنه أوكسيجين مقومات الحياة، ولفوا حبال الموت البطيء حول عنقه من خلال احتجاز أمواله، وما حصل في أحد المصارف في الحمراء أمس ليس سوى عينة من معاناة كل اللبنانيين الذين وفّروا قرشهم الأبيض ليومهم الاسود، لكنهم لم يجدوا سوى أيام سود بلا أموال، وهذا ما يفسر تضامن أصحاب الودائع مع أحد المودعين الذي احتجز الموظفين وعملاء المصرف، مهدداً بإضرام النار في نفسه وفي من هم في داخله إذا لم يحصل على ودائعه.
مع العلم أنه أقدم على هذه الخطوة بدافع انساني، اذ أنه بحاجة الى الأموال لدفع تكلفة علاج والده في المستشفى. وحمّلت جمعية المودعين مسؤولية ما يحصل لأصحاب المصارف والحكومة ومجلس النواب ومصرف لبنان مجتمعين.
ووفق أحد الدستوريين، فإنه لا يجوز أن يقتص اللبناني من موظفين ومن رهائن، فهؤلاء ضحايا مثله، وليس مقبولاً أن يأخذ حقه بيده وإلّا تحوّلنا الى شريعة غاب على الرغم من أن المشهد سيتكرّر نتيجة الظروف الضاغطة. قانون العقوبات جرّم احتجاز الرهائن، وحجز الحريات، كما جرّم استعمال الأسلحة وتهديد الآخرين بإزهاق أرواحهم. وهنا تعود للقاضي إن كان سيحكم على هذا الشخص بأسباب تخفيفية مراعاةً للظروف والضغط النفسي الذي يتعرّض له اللبناني.
صراع الجهل بين الجهلاء
وبالعودة الى الوضع السياسي الذي لا يتردد اثنان في وصفه بالغابة التي تسودها الفوضى المتوحشة أو بعصفورية جهنم حيث الكل “يغني على ليلاه”، ما يجعل الأفق ضبابياً، وملبدا بالفوضى والنزاع، ويكفي النظر الى الكباش الحاصل بين الرئاستين الأولى والثالثة، للتأكد من أن المسؤولين يراكمون الحجارة فوق القبر، وهم اليوم يتناتشون ما تبقى من مؤسسات دستورية.
ويختلف رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف نجيب ميقاتي على الصلاحيات، ويعقدون اجتماعات وزارية منفصلة في القصر الجمهوري والسراي الحكومي وكأن الحكومة انقسمت الى حكومتين، والى سلطتين غير تنفيذيتين ما اعتبره بعض السياسيين سابقة في العبثية المطلقة ذات خلفية سياسية توظيفية، وتسجيل النقاط قبل اقتراب موعد الاستحقاق الدستوري لانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وفي قراءة قانونية لهذه الاجتماعات، يؤكد أحد الدستوريين أن لا نتيجة لها، وليس لها أي فعالية على الصعيد الدستوري لأنها تجري بين وزراء وليس لحكومة مجتمعة. وبالتالي، لا صفة دستورية لهذا النوع من الاجتماعات، وبالتأكيد لا آلية تنفيذية للقرارات مع العلم أنه لا يمكن اتخاذ أي قرار مهم على الصعيد الاصلاحي ووقف الانهيار في ظل حكومة مستقيلة. اذاً، كل ما يجري من اجتماعات ليس سوى تمرير للوقت، وتسيير البلد على قاعدة النكايات المتبادلة “ومن بعد حماري ما ينبت حشيش”.
أما أحد المحللين السياسيين فيرى أن هذا الوضع يشكل المرحلة الأخيرة من الانهيار الذي لا بد أن يؤدي الى أحد اتجاهين: اما سيتفاقم هذا الانهيار في السلطة التنفيذية مع تشبث رئيس الجمهورية بالبقاء في بعبدا بحجة عدم وجود حكومة مكتملة الصلاحيات، وهذا الأمر يفتح الوضع اللبناني على المجهول الكبير، واما أن هذا الاهتراء السياسي سيدفع المجتمع الدولي بين باريس والرياض وواشنطن الى حضانة الوضع اللبناني، وفرض نوع من التسوية السياسية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية يكون من خارج الاصطفاف الموجود أو على الأقل من خارج الحلقة التي تطبق على عنق لبنان منذ 6 سنوات.
اجتماعات السراي الحكومي أقرب الى الواقعية بمعنى أنها تحاول معالجة ملفات حياتية واجتماعية، أما اجتماعات بعبدا فهي ذات طابع سياسي شعبوي لأنها تحاول أن تعالج مسائل غير قابلة للعلاج الا في حال وحدة وطنية كاملة واحتضان دولي كامل مثل مسألة النزوح السوري.
وفي محصلة أحد السياسيين المخضرمين، لبنان يستحق طواقم أكثر أهلية لرعايته لأن المتوافر هو خلاصة خيارات قسرية فرضت عليه جراء ارتهانات ديموغرافية وهيمنات تبعية خارجية. لبنان ليس في حالة خيار طبيعي حر، لذلك يحتاج الى نوع من القيامة أو على الأقل التعافي لاستعادة نفسه.
لبنان اللبناني مغيّب، وهذا اللبنان دخيل ومعتدم ولكن اللبنانيين لا يمكنهم الاعتفاء من المسؤولية، ولا خلاص لهم الا بمبادرة خلاصية منهم من دون اعتماد على تدخل خارجي أو تعاطف انساني.
لا خلاص للبنان الا باللبنانيين وما داموا مشتتين فرقاً وبدعاً متطيفة، متمذهبة ومستزلمة للتوافه، فلن تكون عودة الى الربيع. ليخلص الى القول: “ما يحصل من اجتماعات في بعبدا والسراي ليس صراعاً على الصلاحيات انما صراع الجهل بين الجهلاء لأنه يفتقر الى مقومات المعرفة الحقيقية التي قوامها المحبة. الأفرقاء متباغضون حتى الجهل وجهلة حتى البغضاء”.
إخبار بحق 27 شخصية رسمية
على صعيد آخر، حضر أهالي ضحايا فوج الإطفاء الى قصر العدل لتقديم إخبار بحق 27 شخصية رسمية ومعنوية، لافتين الى أنهم قدموا كل المعلومات والأدلة المتعلقة بهذا الإخبار الى مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات .
واعتبر أحد المحللين السياسيين أن الانتباه الأقصى والأهم يتركز اليوم على التطورات الحاصلة في المنطقة على خلفية مفاوضات فيينا ان كانت ستنجح أو تفشل، مشيراً الى مسألة بالغة الخطورة حدثت خلال الساعات الماضية تتمثل في ايعاز “حزب الله” الى وسائطه الاعلامية بإعادة التركيز على فرضية الصاروخ الاسرائيلي الذي فجر مرفأ بيروت.
هذا الايعاز، في الواقع ايعاز ايراني وكأن هناك اتجاهاً الى تحريك الوضع الاقليمي عسكرياً في اتجاه مواجهة أو حرب أو ميني حرب في حال فشلت مفاوضات فيينا، لكن يغيب عن بال طهران والضاحية أن اثارة موضوع الصاروخ الاسرائيلي الذي قصف النيترات في المرفأ يفتح في الوقت نفسه مسألة النيترات بحد ذاتها، أي كيف تم استقدامها وتخزينها وكيف كان يتم اخراج كميات منها في اتجاه سوريا لضرب البراميل المتفجرة على رؤوس السوريين. لذلك، فتح هذا الملف حالياً، بمقدار ما يخدم الاستراتيجية الايرانية، يضرب في عمق مسؤولية الحزب عن تكديس النيترات في المرفأ الذي يقول ان اسرائيل فجرتها.
لذلك، فإن هذه اللعبة ذات وجهين: لعبة خطيرة في المنطقة لتبرير حرب ما ولعبة خطيرة في الداخل اللبناني لكشف مسؤولية “حزب الله” في مسألة تفجير المرفأ، وسكوته المديد على مدى سنتين عن فرضية الصاروخ الاسرائيلي لأنه يدين الحزب مباشرة، وهذا ما يفسر على الاقل كيف أن الحزب سعى خلال السنتين الماضيتين الى محاولة طمس التحقيق العدلي ولجمه ومنعه من بلوغ الحقائق لعل هذا الكشف الأخير على لسان مسؤول كبير روسي بأن صاروخاً اسرائيلياً ضرب المرفأ، سيحمل تبعات خطيرة لـ “حزب الله” في كل هذه القضية الخطيرة، وبالتالي، الحزب يدين نفسه على مبدأ “كاد المريب أن يقول خذوني”.