بعد انهيار الهيكل وتداعي النظام المصرفي، أتى “تعديل قانون السرية المصرفيّة”، لينهي النظام الذي اعتمده لبنان منذ ستة عقود ونيف. التخلّي عن “السرّية المصرفيّة” لم يكن خيارًا برلمانيًا بقدر ما هو استجابة لشروط صندوق النقد الدولي، وجهات دوليّة أخرى، ترى أنّ ستار السرية مكّن الأموال المشبوهة والمتأتيّة عن الفساد، من الإختباء خلف الجدار المصرفي الآمن.
رفع السرية بناءً لطلب جهات أربعةالقانون وقعه رئيس الجمهورية بالامس بعد استيضاحه نائب رئيس مجلس النواب الياس ابو صعب بعض النقاط.أبرز التعديلات التي أقرّها المجلس النيابي في 26 تموز الماضي، المادة 105 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، والمادة 150 من قانون النقد والتسليف، وبعض مواد قانون الإجراءات الضريبية وقانون ضريبة الدخل. ووفق نصّ القانون الذي حصل “لبنان 24” على نسخة منه “لا يمكن للمصارف أن تتذرع بسر المهنة أو بسرية المصارف المنصوص عليها في هذا القانون، وعليها أن تقدّم كل المعلومات المطلوبة فور تلقيها طلباً من:
أ-القضاء المختص في دعاوى التحقيق في جرائم الفساد والجرائم المنصوص عليها في المادة 19 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، والجرائم المحددة في المادة الأولى من القانون رقم 44 تاريخ 24/11/2015 وتعديلاته (مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب)، ودعاوى الإثراء غير المشروع المقامة استناداً إلى القانون رقم 189 تاريخ 16 تشرين الأول 2020 (قانون التصريح عن الذمة المالية والمصالح ومعاقبة الإثراء غير المشروع).
ب-هيئة التحقيق الخاصة بموجب قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب الآنف الذكر.
ج-الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد استناداً إلى القانون رقم 175 تاريخ 8 أيار 2020 (قانون مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد).
د-الإدارة الضريبية بهدف مكافحة التهرب الضريبي وذلك وفقاً لأحكام القانون رقم 44 تاريخ 11 تشرين الثاني 2008 وتعديلاته (قانون الإجراءات الضريبية).
ثمّن النائب السابق غسان مخيبر إضافة هذه الجهات الثلاثة، إي القضاء المختص، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والإدارة الضريبية، بحيث ألزم القانون المصارف الإستجابة لطلب هذه الجهات، إضافة إلى هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، معتبرًا أنّ توسيع مروحة الجهات والجرائم من حسنات القانون، خصوصًا أنّه جرى تضمينه عقوبات تطال “كل من امتنع عن الاستجابة للطلبات الصادرة عن الجهات المذكورة بحيث يخضع للعقوبة المنصوص عليها في قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب”. ولا تحول الملاحقة القضائية دون حق الهيئات الرقابية والتنظيمية بفرض العقوبات التأديبية والإدارية وفقاً لأنظمتها وللقوانين التي ترعاها.
مادة ملتبسةأشار مخيبر في حديث لـ “لبنان 24” إلى ثغرات تعتري القانون، أبرزها المادة التي تعطي مهلة ستة أشهر لأصحاب الحسابات المرقّمة السرّية والخزائن الحديدية قبل رفع السرية. تنصّ المادة أنّه “يجب تحويل جميع حسابات الزبائن المرقّمة والخزائن الحديديّة المؤجّرة، إلى حسابات عادية وخزائن، تطبّق عليها كل متطلبات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وقوانينها ومراسيمها التطبيقيّة، وذلك في مهلة أقصاها ستة أشهر تلي دخول هذا القانون حيز التنفيذ”. ثم وردت المهلة في الفقرة الثالثة من المادة نفسها “تؤجل لحين انتهاء المصرف من إجراء عمليات تطبيق ومن اتخاذ كل التدابير اللازمة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بما في ذلك العناية الواجبة للزبائن، حفظ السجلات وتحويل حسابات الودائع الرقمية إلى حسابات`عادية، أي عملية سحب للأموال من حسابات الودائع المرقمة أو الخزائن الحديدية المؤجرة، وذلك بانقضاء فترة الـ 6 أشهر المحددة في البند 2 من هذه المادة”.
تعليقًا على هذه المادة يلفت مخيبر إلى أنّ القانون أتاح هنا رفع السرية عن هذه الحسابات المرقّمة السرية، ولكنّه أقرن ذلك بمهلة ستة أشهر، وتساءل عن الغاية من منح هذه المهلة الطويلة لأصحاب الحسابات السرّية “وكأن هناك إيحاء بإمكان هؤلاء وخلال ستة أشهر، تهريب أموالهم قبل بدء تطبيق أحكام القانون. هي مادة ملتبسة وأخشى أن تفسّر لاحقًا بأنّه لا يمكن تحريك الملاحقة قبل إنقضاء ستة أشهر. لماذا منحوا هذه المهلة وما الذي يحصل قبل انقضائها؟ هل يتمّ تجميد الحساب؟ النص ملتبس جدًا، ولا بدّ من توضيحه”.
مديرو المصارف يحق لهم ما لا يحق لغيرهممن ثغرات القانون وفق مخيبر، المادة المعدّلة التي أضيفت إلى المادة الثالثة من قانون سرية المصارف “يحظر فتح حسابات ودائع مرقمة وتأجير خزائن حديدية لزبائن لا يعرف أصحابها غير مديري المصرف أو وكلائهم”. بما يعني أنّ القانون أتاح لمديري المصارف ووكلائهم فتح حسابات مرقّمة وسريّة.الإدارات ملزمة تحت طائلة العقوبةالتعديل الذي طرأ على قانون الإجراءات الضريبية ألزم كل الإدارات بتقديم المعلومات التي تطلبها الإدارة الضريبية، وباتت المادة 23 منه على الشكل التالي “على كل شخص، بما في ذلك الإدارات الحكومية والأشخاص المعنويين ذوي الصفة العمومية، والمؤسسات العامة، والبلديات، واتحادات البلديات، بالإضافة إلى مختلف هيئات القطاع الخاص والنقابات، أن يزود الإدارة الضريبية بأية معلومات تطلبها، بما في ذلك المعلومات المحمية بالسرية المصرفية، وذلك للقيام بواجباتها، بما في ذلك عمليات التدقيق الضريبي أو التدابير الرامية إلى تعزيز الامتثال الضريبي وكشف التهرب الضريبي”. كما أنّه “لا يجوز لأيّ كان التذرع بسر المهنة للحؤول دون تمكين موظفي الإدارة الضريبية من مراجعة السجلات والمستندات المحاسبية، التي تسمح بالتحقق من مدى التزام المكلفين بموجباتهم الضريبية، أو التي تمكّنهم من الإجابة على طلبات المعلومات التي ترد إلى الإدارة الضريبية” بموجب اتفاقيات تفادي الازدواج الضريبي”.
ميزة لبنان المصرفيّة تلفظ أنفاسهامما لا شكّ فيه أنّ قانون السرية المصرفية الذي أقرّ في أيلول عام 1956، جعل من لبنان على مدى 66 عامًا منصّة مصرفيّة، جذبت الكثير من الأموال العربية والأجنبية، وكانت ملجأ لأصحاب رؤوس الأموال الهاربين من الطغاة. في السنوات الماضية، وقبل الأزمة المالية، تكثّفت الضغوط الدولية على لبنان لمكافحة تبييض الأموال والتهرب الضريبي، فأقر البرلمان قانون مكافحة تبييض الأموال عام 2015، بحيث ألزم المصارف بمراقبة العمليات التي تجريها مع زبائنها لتلافي تورطها بعمليات يمكن أن تخفي تبييضاً للأموال، وأتاح رفع السرّية عن الأموال المشتبه بها. كما أنّ المصارف ورغم السرّية المصرفية إلتزمت بقانون الإمتثال الضريبي على حسابات الأميركيين الخارجيةFATCA، وألزمت المودعين بالتوقيع على قوانين تخرق خصوصية الحسابات، وتمكّنت طيلة السنوات الماضية من الحفاظ على التوازن بين ميزة النظام المصرفي اللبناني ووجودها ضمن النظام المصرفي العالمي.
مع الإطاحة بالسرّية المصرفية فقد لبنان أهم ميزاته المصرفيّة على الإطلاق. بنظر بعض الإقتصاديين والحقوقيين، إنهاء عهد السرّية المصرفيّة ليس في صالح لبنان، وتبعات تلك الرياح التي تقتلع كل شيء قد لا تكون منسجمة مع شهية سفن النجاة، فيما يرى البعض الآخر أنّ السرّية المصرفيّة باتت لزوم ما لا يلزم، بظل نظام مصرفي فقد الثقة به. بأي حال، نحن، وبحكم الجحيم الذي بلغناه، أمام نظام مالي مصرفي واقتصادي جديد، لا زال غامض المعالم، يرسم الإنهيار حروفَه الأولى.