تقصّد الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير قبل يومين، إرساء معادلة حاسمة بشأن ارتباط لبنان بالملف النووي الإيراني، مؤكداً أنه لا علاقة لقضية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل بالإتفاق، سواء وُقّع أو لم يُوقّع.
في المُعادلة التي أرساها نصرالله، يظهرُ أمران أساسيان: الأول هو أنّ “حزب الله” أراد إثباتَ أنّه مُتحرّر من الإملاءات الإيرانية بشأن أي خطوة قد يتخذها في لبنان وتحديداً على صعيد أي صراعٍ عسكري مُحتمل. أما الأمر الثاني فيكشف أن الحزبَ يُقارب ملف ترسيم الحدود من عينٍ لبنانية بحتة، وذلك بمنأى ومعزلٍ عن أي تطوّرات أخرى قد تجري بين الدول الكُبرى وتحديداً على صعيد “النووي الإيراني”. أما الأمر الأهم الذي ينكشف في سياق كلام نصرالله هو أنه قد تكون هناك بوادر إيجابية فعلاً على صعيد المحادثات بين إيران والولايات المتحدة، لكنّ هذا الأمر لم يتبلور بعد بشكل واضح في اتفاق مكتوب.
كيف يُمكن للملف النووي أن يُؤثر على لبنان؟
في الواقع، لا يُمكن أبداً نُكران تأثير الاتفاق النووي على لبنان باعتبار أن تلك الخطوة تُمهّد لحالة جديدة من الاستقرار بعد جولةٍ طاحنة من التناحر والتنافر بين طهران وواشنطن. وبشكل قطعي، فإنّ أي تفاهمٍ دولي بين الأقطاب الكبرى التي تعني لبنان، سينسحبُ إيجاباً على صعيد أي ملفّ يبرزُ داخله، لكنّ الأمور تبقى مرهونة بوجود اهتمام دولي حقيقي لإضفاء معالجة فعلية وجدّية في لبنان.
خلال الجولات التفاوضية بشأن “النووي الإيراني” في فيينا، لم يكن ملحوظاً أبداً أي عنوانٍ يرتبطُ بلبنان، وهو أمرٌ عبّر عنه “حزب الله” مراراً خلال الفترات السابقة. وعملياً، الأمرُ هذا منطقي، إذ أنَّ الاتفاق لا يعني لبنان ولا يشملُه، لكنّ تأثيره قد يؤسّس لحالة من “البُرود” في المنطقة، في حين أنه لا ينصّ أبداً على إنهاء أي صراعٍ مُحتمل في المنطقة، وهنا بيت القصيد.
وبمعنى آخر، فإنّ الاتفاق النّووي لن يُقدم أو يؤخر على صعيد ترسيم الحدود البحريّة خصوصاً أن هناك التزاماً قاطعاً من “حزب الله” بالمضيّ حتى النهاية في الملف وتحديداً إن لم ينَل لبنان حقوقه النفطية بشكل كامل. إلا أنه في المقابل، فإن بإمكان الإتفاق النووي أن يُساهم في تسريع الحلول أو تقديم صيغة جديدة لإرساء نوع من الإستقرار النسبي، لكنه في الوقت نفسهِ لا يفرض على “حزب الله” أو إسرائيل الالتزام بمعادلة الهدنة، نظراً لتعارض وتضارب المصالح.
واستناداً إلى كل ذلك، يمكن القول أنّ أي معالجة على صعيد ملف ترسيم الحدود ستتصلُ بمعطيات ميدانيّة فعلية، في حين أنه ليس وارداً تماماً لدى إيران، الضغط على “حزب الله” للتراجع عن أي خطوةٍ قد يفعلها بشأن ملف الترسيم وذلك لاعتبارات عديدة، أولها هي أن طهران لن تنجرّ وراء أي خطوة تساهم في “كسرِ” حزب الله الذي شهدت قوته تعاظماً كبيراً خلال السنوات الأخيرة، حتى باتت إسرائيل تعتبرُ العدو الأخطر بالنسبة لها.
وضمنياً، فإنّ الدعم الإيراني الذي مُنِح لـ”حزب الله” طوال العقود الماضية لن يتوقف أو يتأثر باتفاقٍ من هنا أو من هناك، وإن حصل ذلك فإن إيران ستخسرُ أوراق قوّة كانت في يدها، في حين أنها ستكون قد رضخت لعملية “تطويع” الجهات التي تتبعُ لها عقائدياً وعسكرياً وسياسياً.
كذلك، فإنّ أي تمسّك لإيران بمعادلة القوة هدفه إبقاء إسرائيل في حالة من التأهّب، وهذا جزءٌ من التكتيك العسكري الإستراتيجي، والدليل على ذلك هو إشارة القائد العام للحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي مؤخراً إلى أن الكيان الإسرائيلي يجب أن يبقى في حالة من الخوف من فصائل المقاومة الموجودة في المنطقة.
هنا، فإنّ الهدف الإيراني يبدو واضحاً في تكريس معادلة ردعٍ واضحة، لكنّ هذا الأمر لا يرتبطُ أبداً بأي اتفاق بين طهران وواشنطن. فمن جهة، ما يُمكن تأكيده تماماً هو أن إيران لن تكسرَ من “الستاتيكو” الذي أرسته خلال سنوات، ومن جهة أخرى، فإنّ أميركا لن تنجرّ إلى شروط طهران في المنطقة والتي تهدف إلى إضعاف إسرائيل.
ووسط كل هذا المشهد، ما يمكن أخذهُ في عين الاعتبار أيضاً هو أنّ الاتفاق النووي يمكن أن يُمهّد لتسويةٍ إيرانية – أميركية بشأن لبنان، خصوصاً إذا أرادت واشنطن ضمان أمن إسرائيل في الوقت الحَرِج. هنا، يمكن لـ”حزب الله” أن يلجأ إلى إيران لتعزيز أوراق قوته أكثر من خلال الضغط على الأميركيين لمنح لبنان حقوقه النفطيّة، وبالتالي تجنيب إسرائيل حرباً تحاول أن تنأى بنفسها عنها في ظلّ الحاجة الأوروبية للغاز الإسرائيلي بسبب الحرب الأوكرانية – الروسية.
مع هذا، فإنّ زيارة مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى إلى واشنطن خلال اليومين المقبلين لمناقشة ملف ترسيم الحدود البحرية، قد تذهب في منحى الطلب من واشنطن تسريع المفاوضات والاستفادة من الأجواء الإيجابية مع الإيرانيين لإبعاد شبحِ الحرب التي يتحضر “حزب الله” لشنّها في أي لحظة ضدّ تل أبيب.
وإنطلاقاً من كل ذلك، ما يبرزُ بشكل كامل هو أنّ ملف ترسيم الحدود قد يشهدُ على تبدلات عديدة في حال صدقت التوقعات المرتبطة بحصول محادثات فعلية بين الدول بشأن لبنان. وحتماً، فإن المصلحة الأميركية والإسرائيلية حول ملف الغاز قد تكون الدافع الأكبر لاستغلال التقارب مع إيران بغية الضغط باتجاه حلولٍ بعيدة عن صراع عسكري، وهذا الأمرُ سيصبّ حُكماً في خانة لبنان بالدرجة الأولى سواء على صعيد انتفاء حصول حرب أو على صعيد تحصيل حقوقه من النفط والغاز وفق شروطٍ فرضتها معادلة ردعٍ طاغية وبقوة على المشهد.