مع عودة بروز الملف الحكوميّ مُجدداً عبر دفعٍ سياسيّ كبير من مختلف الأطراف، راحت أوساط سياسية تروّج لخطوة إمكانية تشكيل حكومة عسكريّة بعد مغادرة رئيس الجمهورية ميشال عون قصر بعبدا يوم 31 تشرين الأول المُقبل.
السيناريو الذي يجري الترويج له يرتبطُ حُكماً بقائد الجيش العماد جوزاف عون، على غرار حكومة” المجلس العسكري”برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون التي تولت المهمة عقب انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل عام 1988.
اليوم، وبعد 32 عاماً على تلك الأحداث، يتبين بوضوحٍ تام أن الخطوة التي يتمّ الترويج لها بشأن تشكيل حكومة عسكرية، تصطدمُ بعقباتٍ عديدة، أبرزها رفض قائد الجيش العماد جوزيف عون اقحامه في دهاليز السياسة ، واعتبار النائب جبران باسيل قائد الجيش مُنافساً رئاسياً له.
في الشكل والمضمون، يُصرّ باسيل على عدم منحِ قائد الجيش أيّ بطاقة للعبور نحو بعبدا، فهو لا يقبلُ به رئيساً بمواصفاتٍ دستورية مُكتملة، لكنه في الوقت نفسه قد يسعى للاستفادة من المجلس العسكري الذي يرأسه عون من أجل الإطاحةِ بحكومة تصريف الأعمال الحالية التي يرأسها الرئيس نجيب ميقاتي. وعملياً، فإن سيناريو العام 1988 من الصعب تكراره اليوم نظراً لاختلاف الكثير من العوامل، أبرزها أن موازين القوى اختلفت عن السابق بشكل كامل، فبات هناك لاعبون يؤثرون على كل المناحي السياسية مثل “حزب الله” وقوى أخرى. في المقابل، فإن أي ضربٍ لرئاسة الحكومة يعتبرُ تهشيماً لما تبقى من سلطات بيدٍ الطائفة، الأمر الذي سيساهم في إقصائها أكثر فأكثر.
بشكلٍ أو بآخر، فإنّ الترويج لأي طرحٍ يرتبط بحكومة عسكرية، سيكونُ بمثابة إعلان “استعداءٍ” للطائفة السنية ولمقام رئاسة الحكومة. وفي حال ذهب باسيل باتجاهه، فإنه سيكون قد كرّس “حرب إلغاء” جديدة تستهدف المؤسسات الدستوريّة بمعزلٍ عن مقتضيات ما نصّ عليه اتفاق الطائف قبل أكثر من 30 عاماً.
اليوم وأكثر من أي وقتٍ مضى، يُمكن اعتبار المشهد القائم هو صورةٌ لمعركة صلاحيات، وما يتبين بشكل أعمق هو أنّ إسقاط السيناريوهات المُجافية للواقع السياسي، هي الخطوة الأقرب بالنسبة لباسيل وذلك من أجل ضمانِ نفسِه سياسياً، وبالتالي التحكّم بقرارات الدولة بعيداً عن رئيس حكومة مُكلّف استطاع أن يؤسّس لجبهة تعارض أيّ خرق للدستور مهما كان.
من هنا جاء التحرّك المفاجئ لـ”حزب الله” الأخير على خطّ تبديد العُقد أمام تشكيل حكومة جديدة، فيكون بذلك قد اعترض طريق باسيل أمام أي مُخطط غير مقبول سياسياً، وبالتالي التأسيس لمرحلةٍ جديدة يمكن من خلالها تثبيت وجود الطائفة السنيّة في مقام رئاسة الحكومة بالدرجة الأولى.
بحسب مصادر سياسية، فإنّ “ما يقوم به الحزبُ في هذه المرحلة قد يصطدمُ بعراقيلَ إضافية سيطرحها باسيل”، مشيرة إلى أنّ “الأخير حمّل الحزب مسؤولية التشجيع على الفراغ وذلك خلال آخر زيارةٍ له إلى البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في الديمان، وبالتالي قد لا يُجاريه في كل ما يريده”، وأضافت: “إنّ دعم الثنائي الشيعي لتشكيل حكومة إنّما يستند إلى إعطاء الرئيس المكلف نجيب ميقاتي ضوءاً أخضر للاستمرار بمهمّته الانقاذية من دون الغرق بمشكلةِ الثلث المعطل التفجيرية التي يريدها باسيل”.
واعتبرت المصادر أنّ “باسيل لا يريدُ أن يساير الحزب على حسابه، كما أنه لن يجاري الأخير في دعمه حُكومياً لميقاتي”، مشيرة في الوقت نفسه إلى أن “أي تحرّك من الحزب بعكسِ ما تريده الطائفة السنية سيؤجج حملة عليه وعلى باسيل مُجدداً، وسيكون ذلك بمثابة حرب إلغاء وانقلابٍ ضد الطائفة”.
ورأت المصادر أن “موقف ميقاتي ساهم في إحراج باسيل بشكل كبير، وبالتالي كشفَ مخططاته بالسيطرة على الحُكم”، موضحة أن “طريقة ميقاتي في معالجة الأمور ساهمت في إبعاد شبح أي تحكّم بالسلطة من قبل فريقٍ واحد، وهذا أمرٌ يؤكد ثباتاً على موقفٍ بعيدٍ عن أي تنازلاتٍ لا تخدم ولا تنفع أحداً”.
وإزاء ذلك، كان بيان المجلس الشرعي الأعلى، السبت، حاسماً على خط تأليف الحكومة، وقد وضعَ خطوطاً حمراء إزاء عدم الاقتراب من صلاحيات رئيس الحكومة، كما كرّس دعماً له في معركته الدستورية. ولهذا، تبيّن بشكل قاطع أنّ باسيل تلقى ضربة جديدة على هذا الصعيد في حين أن المصادر المقربة من “حزب الله” تؤكّد تماماً أن “الحزب لن ينقلِبَ على ما تريده الطائفة السنية من أجل تحقيق رغبة حكومية في نفس باسيل في الوقتِ الحرِج والضّيق”.
وهنا، فإنّ رهان باسيل على فائض القوة الذي يتميز به “حزب الله”، لن يُجدي نفعاً أبداً في معركة الرئاسة، في حين أن أي انقلابٍ على الطائفة السنية سيعنِي تكريساً للتهميش الذي رفضه المسيحيون خلال اتفاق الطائف.
فخلال مطلع العام الجاري، وبعد إعلان الرئيس سعد الحريري تعليق عمله السياسي، خرج باسيلَ بتصريحات تؤكد على دور الطائفة السنية ورفض تهميشها.. أما اليوم، فما الذي تغيّر؟ لماذا يسعى باسيل لضرب حقوق الطائفة وتمثيلها واستعداء رؤساء الحكومات وآخرهم ميقاتي؟… بكل قوّة، هنا يكمُن التناقضُ في المواقف، في حين أنّ أغلب التوجهات الباسيليّة باتت ترتبطُ بحسابات فئوية ضيقة، وبالتالي فإن الرهان على الإصلاحْ لا يبدأ من باب الانقلاب على المؤسسات الدستورية بل في تحصينها وضمانِ استمراريتها.
في المُحصلة، ما يحسمه الواقع هو أن رهانَ باسيل على أي حكومةٍ عسكرية قد لا يحصل على أي موافقة من الأطراف الأخرى، فصلاحيات رئيس الجمهورية اليوم ليست كما قبل الطائف، في حين أنّ ظروف البلاد الحالية تختلف عن ظروف العام 1988. وإن كان هناك من رهان على تبديد موقع رئاسة الحكومة، فأبسط ما يمكن قوله هنا أن ذلك بمثابة “أضغاث أحلامٍ” لا تقدم ولا تؤخر في الواقع السياسي.