بفوز فرقة “مياس” بجائزة “اميركان غوت تالنت” شعر كل لبناني، من أقصى إلشمال إلى عمق الجنوب، ومن السهل الرحب إلى فقش موج البحر، بأنه هو الذي فاز بهذه الجائزة، التي من خلالها، أظهر اللبنانيون مدى قدرتهم على الإبداع والنجاح والتألق، على رغم الظروف المعاكسة، التي تحيط بيومياتهم، وتمنعهم من التفكير بما يمكن أن يميزهم.
من بين الأهداف التي إعتدنا أن نسميها “مؤامرة” هدف رئيسي، وهو حصر إهتمام اللبنانيين بأمور هي من البديهيات في المجتمعات الأخرى، حتى في الدول التي تُعتبر غير متقدمة. فهمّ اللبناني اليوم بات محصورًا فقط في كيفية حصوله على عدد محدّد ومحدود من ساعات التغذية بالكهرباء، وكيف السبيل لتأمين ما يكفيه من المياه ليرتوي بها، ولقضاء أدنى حاجات النظافة العامة، وكيف يمكنه أن يحصل على حفنة من الدولارات، التي أودعها عندما كانت أيامه بيضاء تحسبًا لأيام قد تكون سوداء، وهي اليوم كذلك بالفعل.
همّ اللبنانيين أن يعيشوا كل يوم بيومه، تاركين همّ الغد للغد.
همّهم أن يحافظوا على ما تبقّى لهم من صحة، خوفًا من إضطرارهم للدخول إلى المستشفى.
همّهم أن يؤمّنوا ربطة خبز لإشباع عيالهم. وأعرف أناسًا يأكلون “الخبز الحاف”، لأنهم غير قادرين على تأمين أدنى متطلبات الأكل والشرب.
همّ اللبنانيين اليوم لم يعد كما كان من قبل. هكذا أُريد لهم وهكذا كان. وهنا يستحضرني “الكليب الترويجي”، وفيه: “انت ما تفكر نحن منفكر عنك”.وعلى رغم كل هذا إستطاعت فرقة “مياس” أن تحقّق ما لم يستطع أن يحقّقه الآخرون، المتوافرة لهم ظروف أفضل بكثير مما هو متوافر لأعضاء الفرقة اللبنانية، التي قصدت مدينة لوس انجلس في الولايات المتحدة الأميركية بـ “اللحم الحيّ”.
فهذه الفرقة التي أدهشت العالم بفنّها الراقي وإبداعاتها الخلاّقة إستطاعت أن تعيد إلى اللبنانيين ثقتهم بأنفسهم وبإمكاناتهم غير المحدودة، وأن إهتماماتهم لا تقتصرعلى ما هو مادي فقط، إذ أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل لديه أهداف أسمى، على رغم أهمية الماديات لتأمين مقومات إستمرارية الحياة والصمود.
لقد أثبتت فرقة “مياس” للعالم أجمع أن اللبنانيين قادرون على تقديم الأفضل، وهم المتحدرون من سلالة مصدرّي الحرف إلى العالم.
ملايين من الناس من كل شعوب الأرض حضروا ما قدمته هذه الفرقة اللبنانية الآتية من وطن مشلّع وجريح. أذهلتهم تلك العبقرية، وأدهشهم إصرار اللبنانيين على التمسك بحب الحياة. فالمقاومة لها أوجه كثيرة. وما فعلته تلك الفتيات اليافعات وجه متقدّم من وجوه مقاومة لبنان في وجه كل من يحاول طمس حضارته والإعتداء عليه والتطاول على كراماته ومقدساته، وهي صرخة في وجه كل محاولات تغيير هويته التاريخية.لم نهتمّ كثيرًا بأسماء تلك الفتيات، ولم نحاول أن نعرف إنتماءاتهم الطائفية والمذهبية. همّنا الوحيد أنهن لبنانيات، ينتمين إلى وطن واحد، يريد أن يعيش بسلام، وأن تعود البسمة إلى وجوه الأطفال، وعلامات الرضى إلى العائلات المستورة، والتي تحاول أن تعيش بمخافة الله، والإبتعاد عما يخالف وصاياه الواردة في الكتب السماوية.فرقة “مياس” أعادت إلينا البسمة، ولو لفترة وجيزة، عادت بنا إلى الأيام التي كنا نعرف فيها طعم الحياة، وليس كما هي حالنا اليوم ونحن نعيش أسوأ أيام حياتنا.
و بينما كانت هذه الفرقة اللبنانية تدهش العالم وتحقّق الإنتصارات المتتالية كانت فتاة من بلادي أيضًا تدعى “سالي” تقتحم بنكًّا بمسدس للأطفال لتحصل على حقها من دولارات سُرقت منها، ليس لـ” الجخ” و”الفنطزة”، أو لشراء الفساتين و”البعزقة”، بل لمعالجة شقيقتها المصابة بالسرطان، والتي تذوب أمام عينيها كالشمعة، وهي عاجزة عن تأمين الدواء لها، لأن “حيلتها وفتيلتها” و”تحويشة” العمر مصادَرَة أو مسروقة أو منهوبة أو مهرّبة.
لم تكن “سالي” تفتش عن بطولات، ولم تكن تسعى وراء الشهرة، بل جلّ ما كانت تريده ألا ترى شقيقتها تموت تحت ناظريها من دون أن تتمكن من أن تبلّ ريقها بـ”شربة ميّ”.
شكر كبير من القلب إلى فرقة “مياس”، وإلى جميع الذين تعبوا لكي يقدموا للعالم ما قدّموه من إبداعات لبنانية. شكر لكل تلك الفتيات، التي تتراوح أعمارهن بين الـ15 و25 سنة، لأننا تعّلمنا منهن الكثير. هنّ ذهبن إلى البعيد ليرقصن بإسم لبنان و”كرمالك يا لبنان”، ونحن هنا نمعن في إضعاف لبنان” كرمال الآخرين”.
تحية لـ”سالي”أيضًا، لأنها ذكرّتنا أننا لا نزال نعيش في وطن يموت فيه الفقير لأنه غير قادر على شراء دواء أو دخول مستشفى للمعالجة والإستشفاء.