ما تلقاه من تعاطف وتأييد كبيرين، ظاهرةُ اقتحام مودعين لمصارف واحتجاز الموظّفين بقوّة السلاح، حتّى تحرير الوديعة المحتجزة منذ ثلاث سنوات، لا ينفع معها أضرابٌ لثلاثة أيام وأكثر. هؤلاء المقتحمون، بنظر غالبية لا يستهان بها من المودعين، هم أبطال، لاسيّما عندما يستخدم المودع القوّة للحصول على ماله من أجل معالجة أحد أفراد العائلة. نجاح بسام في “فيدرال بنك” وسالي في “بنك لبنان والمهجر” في استرجاع وديعتهما أو جزءٍ كبير منها، شجّع مودعين آخرين على استنساخ التجربة، كرت السبحة لتسجل في يومٍ واحد خمسة اقتحامات لمصارف في مناطق عدّة، فكل ما يحتاجه الأمر، قطعة سلاح موجودة في كلّ بيت، وحاجة مستجدّة لمبلغ من المال غير متوفر في خزائن المنزل، وغضب شديد، لدى اللبنانين فائض منه.
موجة اقتحام المصارف تكبر ككرة النار، لا شك هي مرجّحة للإستمرار بزخم أكبر في الأسابيع والأشهر المقبلة، بظل بقاء الوضع المصرفي على حاله في احتجاز الودائع إلى أجل غير مسمّى، ولا أحد يضمن عدم وقوع ضحايا في اقتحامات مماثلة. إلّا أن مقاربة موجة اقتحام المصارف لا يجب أن تقتصر على النتائج التي تخلُص إليها، كأن نصفق لتحرير الوديعة أو جزء كبير منها، وهو حقّ لكل مودع، فهذه الظاهرة لا تسيء إلى القطاع المصرفي وحده، بل إلى بقيّة المودعين الذين لم يحملوا السلاح لاسترجاع وديعتهم، هل يُحرم هؤلاء من مالهم طالما لم يستخدموا القوّة؟ ماذا عن حال موظّفي المصارف وتهديد حياتهم؟ وماذا عن الإضطراب والتفلّت الأمني جرّاء هذه المواجهات؟
ردة فعل جمعية المصارف بالهروب إلى الإضراب ليست حلًّا، فالأيام الثلاثة تنقضي، وتبقى أسباب الأزمة هي نفسها، كذلك معالجة وزير الداخلية بإشارته إلى “جهات تدفع الناس إلى تحركات ضدّ المصارف” ذلك لا يلغي جوهر المعضلة باستمرار احتجاز الودائع، بعد ثلاث سنوات على الأزمة، من دون أيّ سند قانوني، أو برنامج زمني لتحرير الودائع.
على المصارف أن تبادر فورًا
خبير المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي دعا المصارف إلى المبادرة دون إبطاء، لوضعّ حدّ للأزمة مع المودعين، وأن تنفرد بقراراتها خارج سقف جمعية المصارف. في حديث لـ “لبنان 24” أوضح فحيلي أنّ المبادرة تعني أن تباشر المصارف بالتفاوض مع الدائنين أي المودعين “فالمصارف لا تنفك تطلب من الدولة اللبنانية التفاوض مع الدائنين، وهي أحد الدائنين. عملاؤها من المودعين هم دائنون للمصارف أيضًا، لماذا لا تفاوضهم؟” أضاف فحيلي” توقّفت الدولة عن سداد إلتزاماتها الماليّة في آذار 2020، المصارف بدورها توقّفت عن سداد إلتزاماتها تجاه المودعين في تشرين الأول 2019، وأكثر من ذلك أوقفت كلّ الخدمات الحيوية، بحيث أنّ المودع يسحب من وديعته لسداد فواتير الإستهلاك، والمؤسسات لسداد نفقاتها التشغيليّة، وفجأة أوقفت المصارف الدفع، والضرر التي أحدثته بعدم التفاوض مع الدائنين، أكبر بكثير من الضرر التي أحدثته الدولة بالتوقف عن سداد ديونها، وعدم التفاوض مع الجهات الدائنة”.
المصارف نوعان: قادر وعاجز
لا يمكن النظر إلى حال المصارف كسّلة واحدة، هناك مصارف إلتزمت بزيادة الملاءة ورأس المال، وفق ما تقتضيه التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان بهذا الصدد، أبرزها التعميم 154، ومصارف أخرى لم تمتثل وأثبتت عجزها عن الإستمرار في السوق “بنك لبنان والمهجر باع فروعًا له في القاهرة والأردن والإمارات، وكذلك فعل بنك “عودة” ومصارف أخرى ببيع فروع في الخارج لتعزيز موقعهم داخل لبنان، ويجب أن ينعكس ذلك إيجابيًا على المودع بالحدّ الأدنى” يقول د. فحيلي.
كان يمكن للمصارف أن تقوم بهيكلة ذاتية دون أن تنتظر إلزامها بذلك بقانون صادر عن مجلس النواب “بشأن أحد بنود التعميم 154 المتعلق بإيداع 3% من الأرصدة بالعملات الأجنبيّة لدى المصارف المراسلة، اعترفت جمعية المصارف أنّهم تمكّنوا من تأمين مليار و 700 مليون من أصل 3 مليار، بحيث أنّ هناك العديد من المصارف لم تلتزم بمندرجات التعميم، والسؤال موجّه إلى مصرف لبنان، لماذا لم يأخذ الإجراءات اللازمة بحق المصارف غير الملتزمة؟” يشير فحيلي في هذا الصدد إلى أنّ اللجنة التي أنشئت لإعادة هيكلة المصارف ولدت ميتة، وقد ظُلم رئيسها نائب الثاني للحاكم بشير يقظان، كما أنّ دور لجنة الرقابة على المصارف مهمّش إلى أقصى الحدود، وقد استقال أحد أعضائها دون أن يتم تعيين بديل.
أخرجوا من عباءة جمعية المصارف
أثبتت المصارف الملتزمة بالتعاميم أنّها قادرة على الإستمرار في خدمة الإقتصاد اللبناني وخدمة المودع اللبناني، وقادرة على تلبية حاجات وليس رغبات المودعين، يقول فحيلي “لكنها لا تقدم عى ذلك، والسبب يعود إلى ما يشبه نادي المصرفيين أو جمعية المصرفيين الذين يضغطون على بعضهم البعض ليبقى سلوكهم واحدًا تجاه المودع. هذا التوجّه تتعاظم مفاعيله السلبيّة، كما أنّ هناك تداعيات عديدة مؤلمة جرّاء طريقة تعامل المصارف مع المودع، وفي حال ذهبت الدولة باتجاه إعطاء رخص لمصارف جديدة لديهم أموال فراش وثقة كبيرة، سنشهد هجرة للحسابات الفريش من المصارف الحاليّة القائمة والقادرة على الإستمرار إلى المصارف الجديدة. بهذه الحال، سيكون الحكم أشبه بالموت بالنسبة للمصارف القائمة، لذا عليها أن تبادر وتفاوض المودعين، وليقم كلّ مصرف بمفاوضة عملائه بمعزل عن الآخر، خصوصًا أنّ جمعية المودعين والمودعين المغتربين لا يطالبون بالحصول على كامل ودائعهم، لكن بالحد الأدنى يريدون معرفة كيفية تقسيط هذه الوادئع”
داخل جمعية المصارف خلاف حول كيفية التعاطي “هناك مصارف لا تشارك في الإجتماعات، ولكنّها أيضًا لا تنفصل عن المجموعة المصرفيّة ولا تغرد خارج السرب، المصارف الفاشلة تريد من القطاع برمته أن يحذو حذوها، وعلى حاكم مصرف لبنان أن يضع يده على المصارف غير الممتثلة للتعاميم، لا أن يحمي القطاع ككل. كما أنّ على المصارف واجبات أخلاقية ومهنيّة تجاه المودعين، ومبادرتها اليوم تشكّل أساسًا لإستمرار القطاع المصرفي في لبنان، برأيي هذا هو الوقت المناسب للمصارف القادرة على الإستمرار بخدمة الإقتصاد لتتحرك، وإلا ستدفع الثمن أولًا بالإضطرابات الأمنيّة، وثانيًا بهروب الأموال الفريش إلى مصارف أخرى خارج لبنان، وهي أموال محرّرة من القيود”.
إلزام الناس باستعمال دولارات المنازل؟
عن خطوة إقفال المصارف لمّدة ثلاثة أيام يقول فحيلي ” لا إشكالية بشأن الإضراب في حال عمدت المصارف إلى تغذية الصرّاف الآلي، لكن في حال لم تفعل ذلك، سنكون أمام معضلة كبيرة، ولدي خوف من أن يكون ذلك مقصودًا بهدف إجبار الناس على إخراج الدولار من الخزنات المنزلية، وبيعه، ربما هذا ما يريده صيّادو الدولار”.