قبل أن تدخل البلاد المهلة القانونية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، يخلف الرئيس ميشال عون الذي تنتهي ولايته الدستورية في نهاية شهر تشرين الأول المقبل، قيل إنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري “يعتزم” دعوة المجلس إلى الانعقاد في أقرب وقت ممكن، ومن دون أيّ تأخير، وبمعزل عن أيّ اعتبارات لوجستية أو حسابات سياسية، لعلّه بذلك يرمي الكرة في ملعب النواب، ولا سيما المقاطعين منهم.
لكن، مع اقتراب الشهر الأول من مهلة الشهرين من الانتهاء، لم يدعُ بري إلى أيّ جلسة انتخابية بعد، بل أكثر من ذلك، لا يبدو أنّه ينوي الإقدام على مثل هذه الخطوة في وقت قريب، فهو قال إنّه يريد إنجاز وتمرير القوانين الإصلاحية قبل أن يتحوّل البرلمان إلى “هيئة انتخابية”، قبل أن يضيف “شرطًا آخر” إلى هذه الدعوة، لم يتوافر بعد، وهو التوافق، وفق ما كشف حين سئل عن الأمر، في آخر جلسات البرلمان قبل أيام.
هكذا، بين إنجاز الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة، والتي يفترض أنّ مجلس النواب يلعب دورًا حيويًا على خطها، وبين انتظار التوافق، الذي قد يكون بعيد المنال، وفق كثيرين، يبقى السؤال: متى يدعو رئيس البرلمان فعليًا لجلسة انتخاب الرئيس؟ وماذا لو لم يحصل التوافق الذي ينشده أساسًا؟ ولماذا لا يترك المسار الدستوري ليأخذ مداه، بعيدًا عن أيّ شروط مسبقة، قد لا تنسجم مع طبيعة النظام “الديمقراطي”؟!
“واقعية سياسية”
بمعزل عن الضجّة التي أثارتها تصريحات بري حول انتظار التوافق، يرى المؤيّدون لوجهة نظره أنه ينطلق من “واقعية سياسية” في مقاربة الأمور، ولا سيما الاستحقاق الرئاسي، فالقاصي والداني يدرك أنّ إنجازه يحتاج إلى توافق “بالحدّ الأدنى” يسبق جلسة الانتخاب، وهو ما لم يحصل حتى الآن، رغم وجود بعض المبادرات والوساطات، علمًا أنّ نصاب أيّ جلسة يدعو إليها بري اليوم لن يتأمّن على الأرجح.
ويستغرب المؤيّدون لموقف بري “المتريث” في الدعوة إلى الجلسة، “مزايدات” بعض النواب في المطالبة بتحديد موعدها، في حين أنّهم لم يبدأوا بعد النقاش “الجدّي” بالأسماء المحتملة للرئاسة، أو حتى بمن يرغبون هم بترشيحهم، فقوى الموالاة كما المعارضة لم تحسم موقفها بعد، ولا تزال في طور النقاش، في حين أنّ نواب “التغيير” على سبيل المثال، لم يطلقوا بعد المرحلة الثانية من مبادرتهم، ما يفرغ أيّ جلسة تعقد اليوم من مضمونها.
أكثر من ذلك، يتحدّث المقرّبون من رئيس المجلس عن “أولويات” يجب إنجازها قبل الانصراف إلى الانتخابات الرئاسية، حيث ينصّ الدستور، وتحديدًا في المادة 75 منه، على أنّ مجلس النواب الملتئم لانتخاب رئيس يُعتبَر هيئة انتخابية، ويترتب عليه الشروع في إنجاز الاستحقاق من دون مناقشة أي عمل آخر، في حين أنّ المطلوب اليوم إنجاز التشريعات الضرورية أولاً، قبل الانصراف إلى استحقاق يُخشى أن يكون أمده طويلاً.
لتأخذ الديمقراطية مداها
لكنّ وجهة النظر هذه، على واقعيتها، تصطدم على المقلب الآخر، بـ”ديمقراطية” المسار الدستوري لانتخابات رئاسة الجمهورية، وفق ما يرى آخرون، فالمطلوب من رئيس مجلس النواب “تطبيق الدستور” بحسب هؤلاء، من دون “تفصيله على القياس”، ما يعني أنّ عليه الدعوة إلى جلسة لانتخاب الرئيس، بغضّ النظر عن أيّ حسابات سياسية، وبمعزل عن توافق لم تنصّ عليه لا القوانين ولا الأعراف، ولا مغزى ديمقراطيًا له من الأساس.
من هنا، يقول هؤلاء إنّ المطلوب أن يدعو رئيس البرلمان إلى جلسة، ولو كان واثقًا بأنّ النصاب لن يؤمَّن، أو بأنّ أيّ مرشح لن يكون قادرًا على الحصول على الأكثرية المطلوبة من الأصوات، لأنّه بذلك يرمي كرة المسؤولية عن كاهله، ويترك الديمقراطية تأخذ مداها، علمًا أنّ مجرد الدعوة يمكن أن تكون “عاملاً ضاغطًا” على مختلف الفرقاء، من أجل الإسراع في حسم مواقفهم، وعدم المماطلة، وربما المناورة، أكثر في العملية.
وإذا كان الدستور ينصّ في المادة 73 منه على أنّ مجلس النواب يجتمع حكمًا في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس، سواء دعا رئيس المجلس إلى جلسة أو لم يفعل، فإنّ الخشية من الفراغ الرئاسي، الذي يعتبره تحصيلاً حاصلاً، تفترض العمل سريعًا على إنجاز الشقّ “الإداري” من الاستحقاق، عبر الدعوة لجلسة، ليكون عندها الجميع قادرين على التمييز بين “المزايدين” و”المتقاعسين”، وما أكثرهم.
في النتيجة، يحقّ لرئيس مجلس النواب أن “يستنسب” في تحديد موعد لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية، كما يقول المحسوبون عليه، ويجوز له أن “يفصّل” مثل هذه الجلسة على قياس “توافق” ينشده، ويرى فيه “شرطًا” لتفادي “الفوضى” التي يبشّر بها كثيرون. لكنّ الأكيد أنّ ما يتجنّبه بري سيأتي، عاجلاً أم آجلاً، ما يفرض على الجميع أن يحسموا مواقفهم في الحدّ الأدنى، بعيدًا عن لغة التحدي والمزايدات التي لا تغني ولا تسمن من جوع، ولا تنتخب رئيسًا!