كتب انطوني جعجع في “لبنان الكبير” ليس صحيحاً أن سمير جعجع لديه مرشح نهائي الى رئاسة الجمهورية، شأنه في ذلك شأن جبران باسيل، وكل ما في الأمر يتمثل في حقيقة واحدة: أنا أو لا أحد.
فالرجلان يعتبران أن ما حصداه في الانتخابات النيابية الأخيرة ليس “مالاً سائباً” يستولي عليه “عابر سبيل” أو مرشح طارئ لا لون له ولا طعم ولا أي جهد لافت، ويعتبران أيضاً أن لا قيامة للبنان الا بوصول أحدهما الى قصر بعبدا سواء وصل اليه مثقلاً بالديون أو محكوماً بالتسويات.
فالنائب باسيل يعرف في قرارة نفسه أنه لن يكون قادراً على النجاح حيث فشل عمه الرئيس ميشال عون ما دام الذين “لم يخلوه” ما زالوا في أماكنهم، وقائد “القوات اللبنانية” يعرف في قرارة نفسه أيضاً أنه لن يكون قادراً على النجاح حيث فشلت اسرائيل، ومعها الغرب وبعض العرب، في اخراج لبنان من سطوة ايران و”حزب الله”.
ويبقى السؤال، اذا كانا يعرفان هذه الحقيقة، فلماذا هذا التهالك على منصب أثخنه العماد عون بالجراح بعد “حرب التحرير”، وموقع يعرف سمير جعجع أنه ساهم مرغماً أو طوعاً في نزع مخالبه عبر اتفاق الطائف.
ويتفق الكثير من المراقبين على أن باسيل لا يملك من الهيبة الرئاسية الا الطموح الشخصي الفاضخ والصارخ، وأن جعجع الذي يحدد مواصفات الرئيس المنشود على قياسه، ربما يستطيع أن يكون رئيساً ادارياً ناجحاً لكن ليس زعيماً مسيحياً داخل البيئة المسيحية على غرار بشير الجميل، ولا زعيماً وطنياً مميزاً داخل البيئة اللبنانية على غرار كميل شمعون.
ويضيف هؤلاء، أن الاثنين خُدعا بنظرية “الرجل القوي” داخل بيئته، فعمل باسيل على حصد ما أمكن من النواب، شأنه في ذلك شأن سمير جعجع، ليكتشفا لاحقاً أن هذه النظرية تنطبق فقط على البيئة الشيعية وحدها.
وقد يقول قائل، ان عون جاء الى الحكم بناء على هذه النظرية، لكن الحقيقة تكمن في مكان آخر وتتمثل في أن وصوله الى قصر بعبدا جاء غداة اتفاق “قوي” مع حسن نصر الله في مار مخايل، وليس نتيجةَ شعبية لم تكن في ذلك الوقت “قوة حصرية” داخل بيئته المسيحية.
ونصل هنا الى نتيجة واحدة، وهي أن باسيل لن يكون خليفة لعمه وكذلك سمير جعجع، مهما تقلبت الظروف وتغيرت الأحوال، وجلَّ ما يستطيعان عمله في الوقت الحاضر، هو محاولة إسقاط الآخر بأي ثمن، وإحراق من يمكن أن يصل الى الرئاسة الأولى من دون مباركة من أحدهما أو من دون القدرة على التحكم به أو على الأقل التأثير فيه وعليه.
الصحيح أن باسيل لم يسمّ أحداً ولم يلمح الى أحد، لكن الواضح أنه يفضل الانتحار على وصول سليمان فرنجية خصوصاً الى الحكم وأي مرشح لا يدور في فلكه عموماً، شأنه في ذلك شأن سمير جعجع الذي يمارس لعبة رمي الأسماء سراً أو علناً من باب الحرق لا الخرق، وهذا ما حدث من خلال اطلاق اسم قائد الجيش العماد جوزيف عون ثم النائب ميشال معوض، بعدما أفرغ الساحة الرئاسية من مرشحين كبار أبرزهم بطرس حرب وفارس سعيد وأمين الجميل، واعترض على سبحة أسماء أخرى أبرزها رياض سلامة.
ويكاد المراقبون يتفقون على أن طرح اسم ميشال معوض في اللحظة الأخيرة جاء من باب المناورة التي تقررت على عجل، وبعد احصاءات واتصالات أكدت أن الرجل لا يملك فرصة النجاح الا من خلال معجزة أو لحظة اقليمية – دولية قد تأتي من مكان ما.
وما عزز هذه النظرية، ما يشبه الاتفاق الضمني الذي قضى بتعطيل النصاب والحؤول دون عقد جلسة ثانية كان يمكن أن تحدث خرقاً أو فرقاً لمصلحة الرئيس العتيد، اذ كيف يمكن وفي لحظة وطنية مصيرية، تبرير غياب ثلاثة سياديين دفعة واحدة هم النواب ستريدا جعجع ونعمة افرام وسليم الصايغ في خطوة أثارت الكثير من التساؤلات لا بل الشبهات سواء عن حق أو عن باطل، ومكنت الرئيس نبيه بري من تحاشي جلسة ثانية متذرعاً بأن النصاب استقر على ٨٥ نائباً وليس ٨٦، ومكنته أيضاً من وضع مفتاح المجلس في جيبه تماماً كما فعل في فترات رئاسية سابقة من جهة أخرى؟
انها واحدة من المرات الكثيرة التي ينجح فيها الرئيس بري في حبك تفاهمات تحت الطاولة، مستغلاً الانقسامات المسيحية من جهة والطموحات المارونية الرئاسية من جهة ثانية لتمرير مشاريع الممانعة في مجلس النواب.
وربما لن تكون الأخيرة ما دام الموارنة الجدد لا يتعلمون من أخطائهم ولا يصدقون أن القوة ليست في عدد النواب أو في عدد المناصرين بقدر ما هي في الغاء عقدة “الأنا” واستبدالها بمصلحة الجماعة.
انها “حرب الغاء” جديدة تنتقل من فريق مسيحي الى فريق آخر، أو في الأحرى انها حرب المئة عام بين باسيل الذي يعتبر الرئاسة إرثاً مكرّساً له وجعجع الذي يعتبرها حقاً مستحقاً، بعد سنوات من التحديات والتخطيط والانتظار.
ما جرى في جلسة الخميس الماضي، يقود المراقبين والمحللين المحليين والخارجيين الى انطباع شبه موحد، وهو أن “حزب الله” الذي يدرك أنه خسر سلاح الغالبية في البرلمان الجديد، قد حصل على سلاحين جديدين يمكن أن يصبا في مصلحته، السلاح الأول صراع المسيحيين الذي يضربون يمنة ويسرة، والسلاح الثاني أحلام التغييريين الذين يسرحون في “عالم مثالي” يعتقدون أنه يقوم بهم لا من دونهم.
ويقول سياسي مخضرم ان السلاح الأول أعطى حسن نصر الله فرصة ثمينة لفرض رئيس يستطيع التحكم به أو التأثير فيه، وأن السلاح الثاني شكل له هدية أغلى ثمناً وهي الرفضية التي يمارسونها مع جعجع والفوقية التي حولتهم قوة هوائية لا تعزز المعارضة ولا تحجم الممانعة بل تدفع، قصداً أو عفواً الى الفراغ الذي يريده نصر الله من دون ضربة كف، لكن الهدية الأغلى ثمناً جاءت من الانفراج الأخير في موضوع الحدود البحرية مع اسرائيل، وهو الانفراج الذي يشكل “تطبيعاً” غير معلن مع تل أبيب، وهدنة جديدة في البحر بعد هدنة البر.
في اختصار، يقف لبنان بين ثلاثة أفرقاء متباعدين، فريق يحتاج الى ست سنوات جديدة لاستكمال السيطرة على لبنان، وفريق ثان يحتاج الى ست سنوات في القصر بأي ثمن، وفريق ثالث دخل البرلمان اما ليكون “بيضة قبان” يخضع لها الجميع، واما الوقوف في الوسط و”ابتزاز” المعارضة والممانعة معاً.