أثار حديث بري، الذي فُسّر في بعض الأوساط “اشتراط” التوافق المسبق من أجل الدعوة إلى جلسة انتخابية، الكثير من ردود الفعل في الأوساط السياسية والقانونية، خصوصًا في ضوء القراءة الدستورية التي تعتبر أنّ مجلس النواب أصبح “هيئة انتخابية حصرًا” بمجرد الدعوة إلى جلسة، ما يفترض الدعوة إلى جلسات “متتالية” حتى إنجاز الاستحقاق الرئاسي، في “استنساخ” ربما لسيناريو 2014، حين كانت الجلسات شبه أسبوعية، ولو أنّها لم تكن تُعقَد.
وبعدما انضمّ البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى المعترضين على “شرط” برّي، ولو من دون تسميته، برفض ربط فعل الانتخاب بالتوافق الذي قد لا يحصل، “فتنتهي المهلة الدستورية من دون توافق ومن دون انتخاب رئيس”، عاد بري ليوضح موقفه، مؤكدًا أنّ الجلسة قريبة، وقبل منتصف الشهر الحالي، فهل نكون أمام تكرار لـ”سيناريو” 2014، بجلسات “متتالية” قد تكرّس في واقع الأمر “شبح الفراغ” بدل إبعاده عمليًا؟!
ما قصده برّي يستغرب المحسوبون على بري والمؤيدون له، أو المتفهّمون لوجهة نظره بالحدّ الأدنى، الضجّة التي افتعلها البعض على خلفية كلامه في جلسة الأسبوع الماضي، في حين أنّ ما قصده كان واضحًا، فهو لم يقل إنّه لن يدعو بالمطلق إلى أيّ جلسة إن لم يحدث توافق، ولكنّه أكّد على “فورية” فعل الدعوة في حال حدوث هذا التوافق، الذي يرى أنه لا بدّ منه إذا كان الهدف انتخاب رئيس، لا مجرّد الدعوة إلى جلسة لا تقدّم ولا تؤخّر.
يقول هؤلاء إنّ بري لم يربط الدعوة بالتوافق، ولو أنّ جلسة الانتخابات الأولى كرّست الربط بين حصول الانتخاب والتوافق، مع التمييز بين التوافق والإجماع، إذ بدا جليًا أنّ أيّ فريق لن يكون قادرًا على إيصال مرشحه للرئاسة، إذا لم ينجح في “استقطاب” فريق آخر بالحدّ الأدنى لصالح خياره، فلا أحزاب الموالاة تمتلك الأكثرية المطلوبة، ولا أحزاب المعارضة المنقسمة على نفسها، موحّدة في مقاربة الاستحقاق بطبيعة الحال.
ولعلّ النقطة “الجوهرية” التي انطلق منها بري بحسب هؤلاء، يبقى في “نصاب الثلثين” المطلوب لعقد أيّ جلسة، بمعزل عن بعض “الفتاوى غب الطلب” التي لا يعيرها أيّ اهتمام، والتي تتحدّث عن إمكانية الذهاب إلى الدورة الثانية بنصاب النصف زائدًا واحدًا فقط، وهذا الأمر إن دلّ على شيء، فعلى أنّ أيّ فريق قادر على “تطيير نصاب” أي جلسة لا تكون نتائجها مضمونة سلفًا، الأمر الذي يدفع أيضًا وأيضًا إلى “غلبة” التوافق على أيّ خيار آخر.
بري سيدعو ولكن! يقول العارفون إنّ “سيناريو 2014” قد يكون الأقرب إلى الواقع في الأيام المقبلة، وبالحدّ الأدنى في ما تبقى من المهلة الدستورية لانتخاب رئيس، حيث إنّ رئيس مجلس النواب لن يتردّد في القيام بواجباته كاملة، من خلال الدعوات إلى جلسات متسلسلة، فهو قال إنّه سيدعو إلى جلسة قبل منتصف الشهر، وبعدها قد يدعو إلى جلسة أو جلستين أسبوعيًا حتى انتهاء الشهر، علمًا أنّ الدستور ينصّ أساسًا على أنّ المجلس يصبح بحكم المنعقد في الأيام الأخيرة من المهلة.
لكنّ العارفون يعتقدون أنّ مثل هذه الدعوات لن تكفي لإنجاز الاستحقاق، طالما أنّ معظم القوى السياسية لا تزال مصرّة على التعاطي معه بوصفه “هامشيًا”، أو على اعتبار الشغور الرئاسي تحصيلاً حاصلاً، بل إنّ هناك من لا يزال يؤكد أنّ النقاش “الجدّي” لن يبدأ سوى في الأول من تشرين الثاني، بعد مغادرة الرئيس ميشال عون لقصر بعبدا، وحين يصبح “هامش” الخيارات أوسع، مع سقوط “الاشتراطات الدستورية” على موظفي الفئة الأولى، وفق ما يرى البعض.
من هنا، يقول هؤلاء إنّ المطلوب ليس أن يدعو رئيس البرلمان لجلسات فقط، من دون أن تُعقَد على الأرجح، أو أن تفضي إلى نتيجة إذا ما عُقِدت أصلاً، في حال اختار النواب أن يكرّروا “مسرحية” الجلسة الأولى، رغم استبعاد هذه الفرضية، بل المطلوب أن تغيّر الكتل السياسية مقاربتها بالدرجة الأولى، وتقتنع بوجوب سلك درب “التوافق” بحدّه الأدنى، بما يتيح إنجاز الاستحقاق الرئاسي فعلاً، بعيدًا عن استعراض القوة هنا، أو التحدّي والاستفزاز هناك.
في المبدأ، لا تسمح “اللعبة الديمقراطية” بأيّ ربط بين التوافق وانتخاب رئيس الجمهورية، فالمطلوب الاحتكام إلى “التصويت” من أجل فرض رئيس بالأكثرية، وفق ما ينصّ عليه الدستور. لكن، بعيدًا عن المثاليّات، على أهميتها، ثمّة “تعقيدات” تحكم هذه اللعبة، تجعل من المستحيل انتخاب رئيس يمثّل فريقًا واحدًا، خصوصًا بعد “سابقة” تحويل “تطيير النصاب” إلى “وسيلة ديمقراطية مشروعة” كما بات يردّد النواب من المعسكرين!