لا جدل على الإطلاق حول أولوية إنتخاب رئيس للجمهورية. هذه مسّلمة أساسية لبدء مسيرة التعافي بعد سنوات من المعاناة. ومَن مِن اللبنانيين، الذي يعانون كل يوم في حياتهم غير الطبيعية، لا يريد أن يكون للبنان رئيس للجمهورية يعيده إلى ذاته، وإلى محيطه العربي، ويعيد إليه الحياة.
ما قاله الرئيس ميشال عون أمام وفد جامعة الدول العربية يؤيدّه فيه جميع اللبنانيين، الذين يريدون فعلًا أن يخرج وطنهم من هذا الأتون الجهنمي. ولكن كان يُفترض به، وهو المؤتمن على الدستور والحفاظ عليه برموش العيون، أن يستدرك كيفية ملء الفراغ الرئاسي، لأنه يعرف أكثر من غيره أنه حاصل لا محال، لأن لديه الكثير من المعطيات التي تؤكد هذه الفرضية.
فالحديث عن أهمية إنتخاب رئيس جديد للبلاد شيء، والعمل على تحقيق ذلك شيء آخر. وما بين التمنّي والفعل فرق كبير. الأول يُترك للمواطن العادي، الذي لا حول ولا قوة لديه سوى التمنّي. أمّا المسؤول فيُطلب منه التقيد بما قاله قاله أمير الشعراء أحمد شوقي:
ما نيل المطالب بالتمنّي ولكن تُؤخذ الدنيا غلابا
وَما اِستَعصى عَلى قَومٍ مَنالٌ إِذا الإِقدامُ كانَ لَهُم رِكابا
فالمسؤول المسؤول لا يتمنّى، بل يُقدم. فماذا لو إنتهى ما تبّقى من أيام قليلة من هذا الشهر ولم يُنتخب رئيس جديد للجمهورية؟ ماذا لو دخلت البلاد بعد إنقضاء هذا الشهر في المدار الفراغي؟ ومَن سيملأ هذا الفراغ؟ ومَن يتحمّل مسؤولية أن تعيش البلاد في فراغ كلّي على كل المستويات؟
أسئلة كثيرة تدور في رأس كل لبناني يرى الخطر داهمًا، ولكن هذه الأسئلة تبقى من دون أجوبة، يُفترض أن تأتي من أعلى الهرم.
ومن بين الأسئلة الباقية من دون جواب يأتي السؤال البديهي: لماذا لا يزال رئيس الجمهورية يتأخر في دعوة الرئيس المكّلف إلى جلسة بحث جدّي في القصر الجمهوري حول التشكيلة الحكومية الكاملة المواصفات والمعايير، ولماذا لا توضع كل الأوراق على طاولة البحث العقلاني والمجردّ من كل غاية أو مصلحة شخصية، (tête-à-tête)، من دون أي تأثيرات خارجية. فلا يخرج الرجلان من هذه الجلسة إلاّ بالتوافق على كل التفاصيل ووفق المعايير، التي تحفظ مصلحة البلد قبل أي شيء آخر، وتحفظ بعدها معايير التوازنات السياسية، من ضمن سّلة حلول تضمن إنتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إلى “حكومة ملء الفراغ الرئاسي” بأقّل أضرار ممكنة.
إلاّ أن ما يُعبَّر عنه في هذه الزاوية شيء والواقع شيء آخر. فهذا الواقع مغاير تمامًا لما يريده المواطن الذي يرى بالعين المجردّة أن مؤسسات البلاد تنهار الواحدة تلو الأخرى.
ما يريده المواطن العادي الساعي وراء لقمة عيشه بشقّ النفس لا يتوافق مع مخطّطات بعض المسؤولين، الذين لا يزالون يراهنون على عامل الوقت، وعلى ما يمكن أن تحدثه “الفوضى” المقبل عليها لبنان بعد 31 تشرين الأول من بلبلة وضياع، تجعل البعض “يترحم” على ايام ما قبل 31 تشرين الأول.
المعادلة واضحة وضوح الشمس: إمّا أن يرضخ الرئيس نجيب ميقاتي لشروط رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل، مدعومًا من الرئيس عون، وإمّا “عمرها ما تتشكّل أي حكومة”. كلام سمعناه من قبل ونعود ونسمعه اليوم، وكأن الزمن لا يزال موضوعًا في ثلاجة “العنتريات”، وكأنه لم يكن تاريخ إسمه 17 تشرين الأول من العام 2019، وكأن إنفجار مرفأ بيروت في 4 آب من العام 2020 لم يحصل، وكأن ما يعيشه اللبنانيون من حياة ذّل هي فقط من صنع الخيال. فهاتوا قليلًا من الماء لوضعه في كؤوس البعض.