تزامنًا مع قرب التوصل إلى اتفاق حول ترسيم الحدود البحرية، عاد الحديث عن الصندوق السيادي لعائدات النفط والغاز، انطلاقًا من كونه يشكّل أبرز عناصر البنية القانونية المتكاملة لهذا القطاع في المستقبل. أكثر من فريق يطالب بوجوب إنشاء هذا الصندوق، لحفظ عائدات الثروة النفطيّة والغازيّة، خوفًا من ضياع الثروة في دهاليز المحاصصة والفساد.
خلاف بين “أمل” و”العونيين” حول الصندوق السياديبالعودة إلى أربع سنوات مضت، شهدت قاعات اللجان النيابية خلافات بين الكتل النيابية حول الجهة المخوّلة إدارة الصندوق السيادي، وكيفية استثمار أمواله، حيث انقسم النواب بين من طالب بالاكتفاء بفتح حساب خاص في المصرف المركزي، ومن أكّد أحقّية إشراف مجلس الوزراء مجتمعاً على الصندوق، ومن اعتبر أنّ إدارته يجب أن تكون مستقلّة تحتَ وصاية وزير المال كصلة ربط مع مجلس الوزراء. كتلة التنمية والتحرير كانت السبّاقة في صياغة اقتراح قانون بعنوان “قانون الصندوق السيادي” قدّمه النائبان السابقان أنور الخليل وياسين جابر في أيلول عام 2017، إنفاذًا لما نص عليه “قانون الموارد البترولية في المياه البحرية” في المادة الثالثة منه رقم 132، لناحية إيداع العائدات الناتجة من الأنشطة البترولية في صندوق سيادي. اقتراح جابر نصّ على وجوب أن يكون الصندوق مؤسسة مستقلّة تحت وصاية وزير الماليّة، وهو الأمر الذي لم يرق للعونيين، فسارع وزير الطاقة في حينه سيزار أبي خليل إلى طرح تشكيل مجلس وزاري مصغّر، يكون الوصي على الصندوق، لكنّه لقي اعتراض العديد من النواب الذين اعتبروا أنّه “لا يمكن الحديث عن الصندوق بصفته مؤسسة مستقلّة، ومن ثمّ وضعه تحت وصاية السياسيين”. مباغتة “التنمية والتحرير” للتيار البرتقالي في سرعة اقتراح القانون لم تمر، فعاد أبي خليل وقّدم اقتراح قانون لإنشاء الصندوق السيادي، وذلك في أيار عام 2019.
الوجه الأكبر للاختلاف بين الإقتراحين يكمن في موقع وانشاء الصندوق السيادي. في اقتراح قانون كتلة “التنمية والتحرير” الصندوق السيادي هو مؤسسة عامة ذات طابع خاص ومرتبط بوزارة المالية، أمّا في اقتراح قانون أبي خليل، الصندوق السيادي هو حساب مصرفي في البنك المركزي ويكون ملكًا للدولة اللبنانية. كما تختلف ادارة هذا الصندوق بين الإقتراحين، ففي اقتراح أبي خليل يوجب القانون انشاء “مجلس الصندوق السيادي” فيما ينصّ اقتراح جابر على إنشاء مجلس ادارة، وتختلف آلية التعيين بين المجلسين، كما يتضمن اقتراح ابي خليل تعيين مفوضية الحكومة لدى الصندوق السيادي في رئاسة الجمهورية، أما في اقتراح قانون كتلة التنمية والتحرير، تنشأ مديرية الأصول البترولية في وزارة المالية.
اقتراح ثالث تقدّم به رئيس اللقاء الديمقراطي النائب تيمور جنبلاط في تشرين الثاني 2019 ينظّم ” إدارة الصندوق لناحية هيكليته، والقواعد المالية التي تحكمه، وأوجه الاستثمار، فضلًا عن حوكمته والرقابة على أعماله وفقاً لأسس ومبادئ الشفافية”. تُنشأ بموجب هذا القانون “مؤسسة عامة ذات طابع خاص، تتمتع بالاستقلالين المالي والإداري تدعى “الصندوق السيادي اللبناني”، وتخضع لوصاية وزارة المال. كما لا يخضع الصندوق لأحكام النظام العام للمؤسسات العامة، إنّما تطبق عليه أحكام هذا القانون ومراسيمه التطبيقية. وحدّد الاقتراح قواعد الإيداع والسحب، والقواعد العامة للاستثمار، ومبدأ الشفافية العام”. نقاشات، ولجان فرعية، وورش عمل كثيرة عقدت في المجلس النيابي حول الصندوق السيادي، بمشاركة خبراء من النروج، لكن بنهاية المطاف حالت الخلافات دون اقرار الصندوق السيادي، لاسيّما بين “حركة أمل” و”التيار الوطني الحر”.
المجلس النيابي على موعد مع استنساخ النقاشات والخلافات السابقة، حالما يتم نفض الغبار عن اقتراحات الصندوق، وإعادة الروح إليها، على وقع التقدّم في مفاوضات الترسيم، بدفع أميركي غير مسبوق. فهل بات لزامًا على المجلس النيابي أنّ يقرّ الصندوق السيادي على وجه السرعة، فيما لو أُنجز الترسيم البحري قريبًا؟ النائب السابق نقولا نحاس كان قد تابع في اللجان النيابية النقاشات بشأن اقتراحات الصندوق، وفي اتصال مع “لبنان 24” لفت إلى أنّ التوصل إلى النشاط الإنتاجي مسارٌ طويل، يستغرق ما لا يقل عن سبع سنوات، بالتالي هناك متسع من الوقت لإنشاء الصندوق، ولكن ذلك لا يمنع من دراسة كافة الإقتراحات وإقرار القانون.الصندوق السيادي لعائدات النفط والغاز أساسي وضروري، تماهيًا مع الدول ذات التجارب الناجحة في هذا المجال، منها الصندوق السيادي النرويجي، وفق مقاربة الخبير النفطي ربيع ياغي لـ “لبنان 24″، لكن هذا لا يعني أنّ الصندوق يجب أن يُنشأ اليوم، لأنّ دخول أموال على الصندوق لن يحصل قبل ثماني سنوات “في حال بدأنا عملية التنقيب عن الغاز والنفط في المنطقة الإقتصادية الخالصة وتحديدًا في المناطق الجنوبية، كونها واعدة جدًا، لن نصل إلى إنتاج تجاري قبل عام 2030. بالتالي نحن بحاجة لثماني سنوات على الأقل للبدء في تحقيق مردود مالي، فما الجدوى من الصندوق السيادي اليوم طالما لا عائدات غازيّة أو نفطيّة أو أرباح قبل سنوات؟” يسأل ياغي معتبرًا أنّ الصندوق اليوم “هو نوع من الترف في غير وقته، ومشروع محاصصة حيال من سيرأسه وكيفية استثمار عائداته. خصوصا أنّه لدينا تجربة فاشلة ممثّلة بإنشاء الهيئة الناظمة لقطاع النفط والغاز، وهي من أفشل الهيئات كمًّا ونوعًا، إذ يتقاضى اعضاؤها رواتب خيالية، من دون أن نعرف لقاء أي عمل، فأين الغاز الذي اكتشفوه؟ وأين العقود التي أنجزوها؟ وما هي الأهداف الوطنية التي حقّقتها الهيئة؟”.أضاف ياغي “موضوع قطاع النفط يحتاج برمته إلى إعادة هيكلة وتكوين. هذا القطاع تقني وعلمي، وهو يشكّل خشبة الخلاص للإقتصاد اللبناني، ولا يمكن أن يدار بعقلية المحاصصة كما في السابق، فطيلة خمسة عشر عامًا لم نثبت أيّ مهنية وأيّ رؤية واستراتيجية في كيفية إدارة القطاع، بل أثبتنا فشلًا تلو الآخر، وخير دليل المسار الذي سلكه ترسيم الحدود بين جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلّة، وما اقترفه الجانب اللبناني من أخطاء منذ عام 2007 عند توقيع الإتفاق مع قبرص، جرّاء عدم الخبرة والكفاءة. هذا رأيّي العلمي والشخصي والوطني، الثروة ملك الشعب اللبناني وكفى استهتارًا بعقول الناس”.يبقى أنّ الثروة المدفونة في أعماق البحار، يمكن لها أن تنقل لبنان من بلد مفلس إلى بلد منتج ومصدّر للنفط والغاز بظل عائدات تقدّر بآلاف المليارات، وذلك متوقف على حسن إدارة القطاع، وتحصينه بقوانين وإدارة شفافة ترافق كلّ مراحل الأنشطة البتروليّة.