قد يكونُ لبنان طوَى وبشكلٍ “حاسمٍ” ملف ترسيم الحدود البحريّة بينه وبين العدو الإسرائيلي، إلا أنّ ما لا يُمكن إغفالهُ حقاً هو المنحى الذي سيُتخذ “داخلياً وخارجياً” بعد توقيع الاتفاق.وبعيداً عن أيّ استثناءات حصلت، باتَ لزاماً على اللبنانيين أن يكونوا على بيّنةٍ بشأن ما سيجري عقب إنجاز الاتفاق “التاريخي” الذي حمَل طابعاً دولياً مُهماً على أكثر من مستوى.كيف انتصر اللبنانيون؟منذُ العام 2011، انطلق قطارُ ملف الحدود البحريّة ومرّ بالكثير من المراحل المرتبطة بمفاوضات وخطواتٍ تقنيّة. إلا أنه وبكلّ بساطة، كان العام 2022 مُنعطفاً بارزاً على صعيداً الملف، وتحديداً منذ شباط العام الجاري الذي شهد بداية الحرب الروسية – الأوكرانية والتي استُخدم فيها سلاح الغاز بقوة ضدّ الأوروبيين الداعمين لكييف ضدّ موسكو.
بكل واقعية، كان الملف قائماً وبقوة في الداخل الإسرائيلي منذ 11 عاماً، ولو لم تكن تل أبيب والولايات المتحدة على تماسٍ مع هذا الملف منذ ذلك الحين، لما كانت هناك حاجة دولية للغاز الإسرائيلي وتحديداً في ظل الصراع الروسي – الأوكراني. وبمعنى آخر، لو لم يكن الغاز الإسرائيلي حاضراً وجاهزاً لـ”نجدة أوروبا”، لكان الترسيم تأخّر تماماً وما كان الاتكالُ الأوروبي سيكونُ على الغاز الإسرائيلي في الوقت الرّاهن.ولهذا، فإنّ مسار الأحداث الذي حصل، خدَم لبنان حقاً وجاء لصالحهِ بقوة، وما فرضته الحرب الأوكرانية من شروطٍ كبيرة أرسى نقلة نوعيّة لم تكن الدول الكبرى تحسُبها أبداً.منذ بداية الأزمة الماليّة في لبنان عام 2019، كانَت بعض الأطراف السياسية تُحاول ربط الإنهيار بالشروط الأميركية لتحقيق ملف الترسيم. حينها، ما كان يُحكى يختلف تماماً عم يُقال اليوم، وأساسه أنّ إسرائيل “حاولت مع الولايات المتحدة الضغط على لبنان للقبولِ بخطّ هوف البحري (الخط رقم 1) وبالتالي نزع حقل قانا من تحت جناحه وإقصائه تماماً عن حقل كاريش”.. حقاً، كانت هذه نظرية الكثيرين وقد تحملُ جزءاً من الصّوابية لأن المسار التفاوضي الذي بدأ عام 2011 كان يرسمُ هذا التوجه. أما في ما خصّ الأزمة، فقد عزز المنضوون تحت “خط الممانعة” نظرية عنوانها أن “ما بدأ في تشرين الأول عام 2019، كان يستهدفُ حزب الله لإنهائه وإضعاف بيئته الداخلية. وعندها، وفي حال تحقق ذلك، سيتم تمرير ملف الترسيم بسهولة ووفق الشروط الإسرائيلية، باعتبار أن صمود “حزب الله” سيتزعزع، وعندها يمكن الوصول إلى أي صيغة بشأن الترسيم بمنأى ومعزل عن القوة التي يحملها الحزب.
إلا أنه وفي العام 2022، دخلت معطيات جديدة حتّمت على الأميركيين والإسرائيليين الذهاب لمناقشة لبنان، فبات الأمرُ غير خاضعٍ للفرض والابتزاز لسبب أساسي وهو أن “إضعاف الحزب” لم ينجَح، على حد اعتبارِ التابعين له. كذلك، يرى حلفاؤه أيضاً أن الأخير استطاع تثبيت موقعه في الانتخابات النيابية الأخيرة، في حين أنّ الحرب الأوكرانية دفعت بالأميركيين والأوروبيين لاعتماد أسلوب المُهادنة مع لبنان والتعامل معه وفق قاعدة واحدة، وهي أن “حزب الله” ما زال موجوداً وتأثيره سيكون كبيراً على خط التفاوض. وحتماً، قد يكون هذا القبول بـ”المُهادنة” قد حصل على مَضض من قبل الأميركيين، إلا أن الأمر الواقع الذي فرضته حرب أوكرانيا كان أقوى وأقسى، خصوصاً أنّ المعركة تهدد قارة بأكملها وترتبطُ بصراعٍ على النفوذ العالمي. وإنطلاقاً من ذلك، لم يرَ الأميركيون مشكلة في مُقاربة ملف “حزب الله” من زاوية أخرى كما أنهم قرروا التعامل معه على أساسِ الأمر الواقع، فجعلوا الفرنسيين خط الوصل بينهم وبينه، في حين أن الدولة اللبنانية استغلّت وبـ”ذكاء” القوة التي يمتلكها “حزب الله” بغض النظر عما إذا كانت مقبولة داخلياً أم لا. إلا أنه في هذا الملف، كان هناكَ “اضطرارية” للتمسك بتلك الورقة، وبالتالي الذهاب نحو تفاوضٍ أبعدَ تماماً الشروط الإسرائيلية وكرّس حقوقاً يرى لبنان أنها انتزعها بالتفاوض وبعيداً عن الضغط.في مُحصّلة القول، ما يمكن تثبيته هو أن مجمل الأحداث الدولية هي التي خدمت لبنان حقاً في ملف الترسيم، وكانت الصّدفة هي الأكثر بروزاً هنا. حتماً، ينطبق القول الشهير “رُبّ ضارة نافعة” على كلّ ما حصل، فالحرب الأوكرانية كانت الضارّة التي نفعت لبنان في أكثر من مكان، في حين أن الاهتمام الأميركي بات أكبر الآن، وما اتصالُ الرئيس الأميركي جو بايدن بالرئيس عون، الثلاثاء، لتأكيد دعم لبنان ومباركة “الاتفاق”، سوى إشارة واضحة ومؤكّدة على أنّ لبنان بات في قلبِ الاهتمام الأميركي أكثر من أيّ وقتٍ مضى. ولإعطاء كلّ ذي حق حقه، فإنّ الموقف الرّسمي الموحّد وتصميم الحكومات المتعاقبة على تكريسِ الملف كعنصر قوّة للبنان، هو الذي أرسى الاتفاق وأوصلَ لبنان إلى ما يريده.. أما السؤال الذي يُطرح بقوة في هذا المِضمار: ماذا بعد؟… هُنا، سيكون للحديث تتمّة..