بعدما أعلن لبنان، على لسان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، موافقته على إبرام إتفاق لترسيم حدوده مع العدو الإسرائيلي، لم يعد أي شيء عصّيًا على اللبنانيين، وأصبح كل شيء متاحًا ومقبولًا به، حيث سقطت كل تهم العمالة والتعامل مع العدو في فترة من فترات الحرب البغيضة. ولكن هذا لا يعني أن توقيع لبنان على إتفاق الترسيم مع إسرائيل، بوساطة أميركية، هو شكل من أشكال التطبيع. فلا لبنان يقبل هذا التطبيع ولا حتى إسرائيل، بل تكتفي، على ما يبدو بهذا القدر من التقارب غير السلبي، والمقتصر على الناحية الإقتصادية، بإعتبار أن إستخراج الغاز والنفط من حقلي “قانا” و”كاريش” من شأنه أن يدخل كلا من لبنان وإسرائيل، مبدئيًا، إلى حلبة التنافس في الأسواق العالمية.
وما لا يمكن التغاضي عنه هو أن الجانب الإسرائيلي مستعد لاستخراج غازه ونفطه من حقل “كاريش” لحظة التوقيع الرسمي على إتفاق الترسيم، وهو ليس في حاجة إلى سنوات طويلة للإستثمار في ثروته الغازية والنفطية كما هي الحال في لبنان، فضلًا عن أن هذا الإستثمار من قِبَل الإسرائيلي ستكون له مفاعيل فورية. فإسرائيل ستستفيد من مردود تجارتها بالغاز والنفط لتحسين إقتصادها بسرعة فائقة، فيما نحن لا نزال في طور التفكير في مدى قبول الطبقة السياسية بإنشاء صندوق سيادي لإدارة عائدات الغاز والنفط وتثميرها في مجال تحفيز الإقتصاد، مع الإشارة إلى أن الإسرائيليين يعرفون ما يختزنه حقل “كاريش” من ثروات نفطية وغازية، فيما نحن في لبنان لا نزال نراهن على “سمك في البحر”، من دون معرفة ما يخبئه لنا حقل “قانا” من مفاجآت.
وبعيدًا عن هذه المقارنة، التي لا تصبّ في مصلحة لبنان في المديين القريب والمتوسط، فإن من شأن التوقيع على هذا الإتفاق مع إسرائيل، وهي العدو الأوحد للبنان والفلسطينيين، أن يفتح الباب واسعًا أمام تسويات داخلية عدّة، سواء في لبنان أو في فلسطين المحتلة. فصفة العمالة أو التعامل مع العدو لم تعد تعني بعد تاريخ التوقيع ما كانت تعنيه قبله، إذ سقطت مع هذا التوقيع كل النظريات التي بنيت عليها إسترايجيات طويلة وعريضة، ولم يعد بالتالي السلاح المتقابل على الجبهات ذا هدف مباشر ومحدّد.
وإستطرادًا يمكن الذهاب بعيدًا في الإستنتاجات التي يمكن البناء عليها إنطلاقًا من واقعية الإعتراف الضمني وغير المباشر بوجود إسرائيل على الخارطة السياسية في المنطقة، ويمكن بالتالي التأسيس لمرحلة جديدة من التعاطي اللبناني – اللبناني، خصوصًا إذا ما سارت المفاوضات الأميركية – الإيرانية على الخطّ المرسوم لها، وأدّت إلى التفاهم على الملف النووي بما يخدم المصالح الأميركية، التي لا تتعارض مع الدور الذي سيعطى لطهران في المنطقة.
فالعلاقات اللبنانية – اللبنانية، التي كانت قائمة على إحداثيات دولية وإقليمية قد تتطور إلى ما يشبه التقارب المغنطيسي بين الجاذبين السلبي والإيجابي، وإن كان الحديث عن أي تقارب محتمل لا يزال بعيد المنال في الظرف الحاضر، من دون أن يعني ذلك أن هذه الإمكانية مستحيلة في المطلق. وقد يكون ما يُحكى عن توافق على مرشح”تسووي” لرئاسة الجمهورية المدخل الطبيعي لأي متغيّرات مستقبلية. فإنتخاب رئيس جديد للجمهورية، بعدالترسيم، أصبح اقرب إلى الواقع اليوم أكثر من أي وقت مضى. ولا يُستبعد أن تكون زيارة وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا لبيروت من أجل تسريع الإنتخابات الرئاسية، وهي أبلغت في زيارتها القصيرة المسؤولين الذين إلتقتهم بضرورة إنتخاب رئيس قبل 31 الشهر الجاري، لأن الوضع في لبنان لا يحتمل الدخول في مجهول الفراغ.
فهل من يسمع؟