لم يعد “حزب الله” بعد ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل كما كان قبله سواء تبنى أو تلطى خلف الدولة، أو حاول التملص أو نفض اليدين من اتفاق ملتبس ما كان ليرى النور لولا ضوء أخضر استمده منه الرئيس ميشال عون وأقدم على ما أقدم عليه …
ولم يعد نبيه بري بدوره قادراً على التغني باسقاط “اتفاق ١٧ أيار” هو الذي سهر على كل نقطة وبند في الاتفاق الذي انتزع من لبنان أقل مما كان حصل عليه في “اتفاق العار”.
فما حصل هو “التطبيع” بعينه، اذ ماذا يمكن أن تطلب اسرائيل من “حزب الله” وايران أكثر من هدنة في البر يعززها القرار ١٧٠١، وسلام في البحر يعززه اتفاق الترسيم، واستقرار مع الجار اللبناني يعززه “التقاعد” الذي ينتظر سلاح “المقاومين” و”الممانعين” الذين باتوا يعرفون الآن أن أي انتهاك للواقع الجديد لن يكون اعتداء على الدولة العبرية بل اعتداء مباشر على الولايات المتحدة نفسها؟
ما جرى في الناقورة لم يكن مفاوضات بين لبنان وأشباح، أو بين لبنان والرئيس الفلسطيني محمود عباس أو مع اسماعيل هنية، بل مع مفاوضين يمثلون حكومة اسرائيل ويعملون لترسيخ ملكيتهم لحقول النفط والغاز التي تشكل في خريطة حسن نصر الله “جزءاً من بحر غزة”.
وقد يسأل البعض لماذا فعل لبنان ذلك؟ ولماذا وافق “حزب الله” في العلن ووافقت ايران وسوريا خلف الكواليس؟
والجواب لا يحتمل الكثير من التكهنات والتفسيرات، فالرئيس اللبناني ميشال عون كان يحتاج بأي ثمن الى انجاز يعتد به قبل مغادرته القصر الجمهوري خالي الوفاض، حتى لو كان هذا الاتفاق موضع تشكيك أو التباس، مستغلاً تداعيات الحرب في أوكرانيا، فوضع الأميركيين أمام احتمالين: اما التوصل الى اتفاق لا يجد رئيساً لتوقيعه في حال الفراغ، ما يعني نظرياً تأخير عمليات الضخ نحو أوروبا وعملياً تقديم فرص الحرب على فرص التفاهم، واما التوصل الى اتفاق في مقابل أثمان يدفعها ومنها التصويت ضد روسيا في الجمعية العمومية وجعل واشنطن لا “المقاومة الاسلامية” عرابة الاتفاق، وأثمان أخرى يقبضها تباعاً ومنها وعد برفع العقوبات الأميركية عن صهره جبران باسيل في مرحلة لاحقة، والحؤول دون وصول رئيس للجمهورية لا يحفظ حصة حصرية ووازنة لـ “التيار الوطني الحر” في الحكومات المقبلة.
من هنا يمكن تفسير أسباب تطيير النصاب في مجلس النواب في محاولته الرئاسية الثانية، ليس احتراماً لذكرى “الثالث عشر من تشرين” وحسب، بل لجعل الفراغ أمراً حتمياً بغية الضغط على الأميركيين وحثهم على التدخل لانتاج رئيس يحمل “مواصفات” ينشدها “معسكر الممانعة”، خصوصاً في ظل فتور أميركي – خليجي عموماً وسعودي خصوصاً أعقب قرار “أوبك” خفض انتاج النفط، وأثار في صفوف “الممانعين” شعوراً بالارتياح من جهة، والأمل في احتمال فرط ثقل اقليمي – دولي كان يصب في مصلحة المعارضة من جهة ثانية.
ومن هنا أيضاً، يمكن تفسير المحاولة التي يبذلها باسيل للاتفاق مع “كتلة التغيير” على انتخاب رئيس لا قاعدة شعبية له سعياً الى التحكم به والاستحواذ من خلاله على التمثيل المسيحي الأوسع بين الكتل المسيحية الأخرى.
وليس خفياً أن عون وباسيل يعرفان أن التركيبة الجديدة في البرلمان الجديد لا تسمح بوصول رئيس الى قصر بعبدا من دون تلاحم مع “قوى التغيير” التي تشكل “بيضة القبان” في لعبة النصاب والأصوات المطلوبة، وهو أمر يتماهيان فيه مع “حزب الله” الى حد بعيد.
وجل ما يريده باسيل في مرحلة أولى ومن خلال هذه المناورة، أن يتحول من “رئيس منشود” الى صانع رئيس، محاولاً بذلك إفهام سليمان فرنجية وميشال معوض وسمير جعجع وسامي الجميل أنه لا يزال “المسيحي الأقوى” سواء كان “الجنرال” في القصر أو في الرابية، وأنه لن يسمح لأي فريق مسيحي بـ “قطف” نتائج “مشاريع” يعتبر أنه كان صاحب الفضل في الوصول اليها وفي مقدمها ملف النفط والغاز.
ويكشف مصدر قريب من باسيل أنه يراهن على فراغ قصير المدى يضع الجميع أمام خيار واحد وهو باسيل أو لا أحد، مشيراً الى أن العامل القطري الذي دخل مستثمراً في الثروة الغازية اللبنانية، يعتبر أن صهر الرئيس اللبناني هو المؤهل الوحيد لادارة ملف النفط في لبنان، وهذا ما ورد مواربة في الخطاب الأخير للرئيس عون.
ولا يبدو “حزب الله” في مكان آخر في ما يتعلق باتفاق ترسيم الحدود البحرية، فهو يحتل لدى الرأي العام المحلي والعالمي الموقع الأول في عملية التفاوض مع اسرائيل، خصوصاً أنه يملك سلاحين ماضيين كان يمكن أن يحددا مصير الوساطة الأميركية سلباً أو ايجاباً، وهما سلاح الصواريخ في حال اختار السلبية، وسلاح المساومات في حال اختار المر بدلاً من السم…
وهنا لا بد من سؤال جوهري، لماذا لم يرسل دفعة جديدة من المسيرات نحو حقل “كاريش”؟ ولماذا قامر بكل رصيده الشعبي والعقائدي في عملية كانت ستؤدي به حكماً الى الاعتراف بالدولة العبرية طوعاً أو قسراً؟
الواقع أن “حزب الله”، لم يكن في وضع مأزوم كما هي الحال الآن عندما لجأ الى المسيرات في مرحلة سابقة، اذ أن الشارع الايراني لم يكن في حال غليان كما هو الآن، ولم تكن ايران متورطة في أوكرانيا وعلى تماس مع أوروبا كما هي الآن، ولم يكن الجيش الروسي في حال تراجع كما هو الآن، ولم تكن حاجة العالم الى الغاز المتوسطي كما هي الآن، ولم تكن مغامرات الحرب جدية كما هي الآن.
لقد أدرك حسن نصر الله أن الحرب مع اسرائيل هذه المرة ستقضي على ما تبقى له من رصيد شعبي في المجتمع اللبناني المنهار والمنقلب عليه تدريجاً، وستكون بالتالي حرباً مع العالم كله أولاً، وستكون ثانياً مع دولة لن تتوانى عن فعل أي شيء، ومنها تدمير لبنان عن آخره، للحفاظ على ثروة طبيعية قد تحولها الى دولة اقتصادية كبرى من جهة ودولة عسكرية “عظمى” من جهة ثانية.
وأدرك حسن نصر الله أيضاً، أنه بات أمام خيارين لا ثالث لهما، اما فتح الجبهة الجنوبية لتخفيف ضغط الشارع عن السلطة الايرانية وليكن ما يكون، وهو أمر غير محسوم من الناحية العملية، واما فتح باب التنازلات في البحر اللبناني لفتح باب المفاوضات الايرانية – الدولية للبحث في الموضوع النووي المتعثر والتحالف الايراني – الروسي في أوكرانيا، وهو أمر ينتظر ما قد تسفر عنه الأيام المقبلة، لا سيما بعد الفتور الذي أصاب العلاقات الأميركية – الخليجية نتيجة قرارات “أوبك” التي اعتبرتها واشنطن انحيازاً مباشراً الى مصلحة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وانطلاقاً من هذا المشهد، يمكن القول، في نظر المراقبين لحركة التيار الممانع، ان “حزب الله” يلتقي مع “التيار الوطني الحر” في محاولات جر البلاد الى الفراغ في القصر الرئاسي، سعياً الى كسب الوقت وخلق أرضية يمكنهما من خلالها تحسين شروط التفاوض مع واشنطن التي بدت بعد اتفاق ترسيم الحدود، العامل السياسي والاقتصادي الأقوى بين كل العاملين الاقليميين والدوليين في لبنان.
وقد كشر “حزب الله”، بعد أسابيع من الصمت، عن أنيابه وأعلن رفضه العلني لخيار ميشال معوض، محاولاً بذلك توجيه رسالتين واحدة الى المعارضة التي ترفض الاتفاق على التوافق، والى واشنطن التي تمتنع حتى الساعة أو علناً على الأقل، عن الضغط في هذا الاتجاه محاولة الظهور بمظهر من سدد ضربة موجعة الى “حزب الله” وايران معاً، ومن يستحق أن يقود عملية الانقاذ في لبنان من دون شراكة مع أحد سواء كانت ايران أو دول الخليج.
وليس من قبيل المصادفة أن يجاهر النائب محمد رعد برغبة حزبه في انتخاب رئيس يقر بالمقاومة، محاولاً بذلك القول: ان ما فعلناه في البحر تحت شعار “مرغم أخاك لا بطل” من جهة، وتحت شعار: “لولانا ما كان ما كان” من جهة ثانية، وتحت شعار “شاهد ما شفش حاجة” من جهة ثالثة، لن نكرره في البرلمان، وان ما فرضته واشنطن في البحر لن نسمح بفرضه في البر.
انه المشهد الذي يشبه الجيوش التي تتداخل بعضها مع بعض، أو بالأحرى مشهد الجلادين الذين يسنون سيوفهم لنحر بلد يحتضر أو بلد محكوم بالاعدام ينتظر من يسبق الآخر لانتشاله مما هو فيه.
انه أيضاً في اختصار، كمن يقول لمن يعنيه الأمر: اذا كنتُ عاجزاً عن اختيار رئيس فهذا لا يعني العجز عن منع انتخابه، أو اذا كنتُ عاجزاً عن تحدي اسرائيل فهذا لا يعني العجز عن تحدي المعارضة.
انها من المرات النادرة التي يتحول فيها “حزب الله” الى لاعب عادي في الزواريب اللبنانية وليس الى لاعب فاعل في محاور المنطقة، ومن المرات القليلة التي يتحول فيها رئيس معدوم الصلاحيات الى دجاجة تبيص ذهباً في مكان أو تفجر حرباً في مكان آخر.