خزّانات مثقوبة تسرّب الماء والمال

31 أكتوبر 2022


عندما وصف الفرنسيون لبنان بـ”خزان الشرق الأوسط” لوفرة مياهه، غفل عنهم أن الفساد المستشري في بلاد الأرز “ثقب” هذا الخزان ليرتوي منه، وليسقي بذور النهب التي زرعها أينما كان، فكانت إحدى النتائج السدود. وعند الولوج في هذا الموضوع، يخيّل لنا أننا في بلاد جافة ولا نقطة مياه تروي شعبها وأرضها، إلا أن مشكلة المياه في لبنان سياسية لا طبيعية. وفي حين أنه منذ أيام عامت الطرقات باللبنانيين وحبستهم داخل سياراتهم عند هطول الأمطار كون البنى التحتية غير مجهّزة، يبقى السؤال: هل نحن فعلاً بحاجة إلى السدود؟

 حاجة ماسةعلمياً، السدود مهمّة بالفعل وهي حاجة ملحّة في دول العالم ككلّ من أجل تخزين المياه. وقد أكّد هذا الأمر رئيس حزب البيئة العالمي ورئيس خبراء حماية الصحة والبيئة العالمية والمستشار الدولي لشؤون البيئة العالمية والمناخ ومستشار الهيئة العليا للإغاثة في السراي الحكومي لبنان الدكتور دوميط كامل، معتبراً أنها مهمّة أيضاً في لبنان لأن “الأنهار باتت صرفاً صحياً وصناعياً، المياه الجوفية أيضاً من خلال الآبار الأرتوازية البالغ عددها 130 ألف المستخدمة للصرف الصحي، عصارة النفايات والمبيدات السامة والمسرطنة وصلت للمياه الجوفية، لذلك نحن بأمسّ الحاجة لسدود تجمع المياه ونعطي منها الإستهلاك المطلوب فضلاً عن الينابيع العليا”.

وقال في هذا الإطار إنه على سبيل المثال، تبلغ طاقة نهر ابراهيم سنوياً بحدود 530 مليون متر مكعّب، إلا أنها تهدر في البحر ولا يتمّ الإستفادة منها سوى لقناة مياه الريّ لساحل فتوح كسروان، إضافة الى وجود معامل إنتاج طاقة كهرومائية تعود الى الخمسينيات وهي بحاجة إلى التحديث.إلا أن كامل اعتبر أنه يجب أن يتمّ إنشاء السدود في لبنان بالمواصفات العالمية المطلوبة لأنها حاجة مائية ماسّة للبنان.مشروع “نهب” فاشل سلفاًنعود بالزمن إلى عام 2011، عندما وضعت وزارة الطاقة والمياه “الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه”، واعدة آنذاك بأن عام 2021 سيشهد نهاية أزمة القطاع بكلفة 10 مليارات دولار. نحن على مشارف عام 2023 ، وما زلنا ندفع فاتورتين للحصول على ما توفّر من المياه، والمحظيّون منا ينالون تلك الصالحة للشرب منها (ونحن في زمن الأوبئة).فقد كان من المفترض أن تساهم السدود في توليد المزيد من الكهرباء وضخّ المزيد من المياه في لبنان ضمن دراسات إنمائية وبيئية آمنة وشاملة، إلا أن الأمر الوحيد الذي نجحت به هو سحب الأموال من خزينة الدولة ومن جيوب المواطنين على مدار سنوات، بتكلفة مليار و975 مليون دولار لمجمل السدود الـ29، عدا عن سدّ بسري الذي كلف استملاكات فقط بقيمة 155 مليون دولار.

إلا أنه يبدو أن خللاً ما اكتشفه البنك الدولي، دفعه في أيلول من العام 2020 لتعليق مدفوعات القرض المخصص لتمويل مشروع زيادة إمدادات المياه لمشروع سد بسري، وإلغاء المشروع، وذلك لعدم اعتماد خطة التعويض الإيكولوجي ضمن الشروط اللزمة لبناء السدّ والاتفاق على ترتيبات التشغيل والصيانة.هذا الفشل الذي انطلقت منه رحلة السدود، أكّده الخبير البيئي بول أبي راشد، رئيس جمعية الأرض، الذي أشار إلى أنه في حين أنّ دراسة من الجامعة الأميركية كشفت أن 200 ليتر من المياه تتسرب كل ثانية من سدّ شبروح، تمّ البدء بسدود بلعا، المسيلحة، جنة وبقعاتا من دون دراسة تقييم الأثر البيئي والإجتماعي المفروضة في القانون، الأمر الذي تسّبب بفشلها لأنه تمّ البدء بالعمل بها و”ترقيعها” عند ملاحظة الأخطاء منذ حوالى 10 سنوات، مع هدر عشرات ملايين الدولارات.وعن الهدر الحاصل، شدد أبي راشد لـ”لبنان 24″ على أنه ما بين عامي 2013 و2014، وجّه وزير البيئة آنذاك محمد المشنوق كتباً إلى وزارة الطاقة والمياه لمنعها من استكمال العمل بهذه السدود، إلا أن الأخيرة لم تردّ، لتنطلق رحلة الفساد. كما أسف للسير بالخطة العشرية التي طرحها وزير الطاقة في العام 2012 جبران باسيل التي بدأت معها سلسلة من المشاريع الفاشلة والمدمّرة “وفتنا بالحيط”، بحسب قوله.وعلى سبيل المثال، رأى أبي راشد أن سدّ القرعون ليس ناجحاً بفعل تلوّثه العميق، متسائلاً أنه في ظل وجود بدائل عن الطاقة الكهرومائية مثل الطاقة الشمسية والهوائية، “هل نحن فعلاً بحاجة لسدود لإنتاج الطاقة الكهربائية مثل سد القرعون الذي أثبت أنه غير صالح للريّ ولا للشرب؟”.مع وجود حوالي 80 ألف بئر غير مرخّصة، وصف أبي راشد الآبار الجوفية في لبنان بالـ”فائضة” وهناك عشوائية كبيرة لدى الناس في استخدامها الأمر الذي أدّى في بيروت على سبيل المثال، إلى انخفاض هذه المياه أكثر من اللزوم ودخول مياه البحر إلى الخزانات الجوفية. واستشهد أبي راشد بدراسات أجريت عام 2014 احتسبت ذوبان الثلوج، أشارت إلى ارتفاع كمية المياه الجوفية إلى 4 مليار متر مكعب عند الهطول العادي للأمطار، و6 مليار متر مكعّب في السنوات التي تشهد هطولاً كثيفاً للأمطار.وعن طبيعة أرض لبنان، لفت أبي راشد إلى أنه يقال إن “65 إلى 70% من أرض لبنان هي طبقة من الكارست، التي تدخل إلى جوف الأرض عند هطول الأمطار الأمر الذي يسمح بتسرّب المياه في حال أردنا تحويل الأرض إلى بئر أو سدّ، وفي حال لجأ البعض إلى الزفت لمنع التسرّب فستصبح كلفة السدود عالية جداً”، موضحاً أن طبيعة الأرض في جبل لبنان لا تشجّع على بناء السدود خلافاً لأعالي الجبالي حيث يعمد المزارعون مثلاً إلى حفر برك صغيرة لزراعة بساتينهم.الحلول: سهلة وواقعية.. والعبرة بالتنفيذأبي راشد لفت إلى أن الحلول كثيرة جداً ويمكن تطبيقها على أرض الواقع إنطلاقاُ من مشكلة تسرّب المياه عبر الشبكة التي تصل إلى البيوت، والحل الأول يكمن في معالجتها. ثمّ يجب على وزارة الطاقة ومجلس الإنماء والإعمار معالجة الصرف الصحي بشكل جذري، فضلاً عن تطبيق الإدارة السليمة والمستدامة للآبار الجوفية.والأهمّ، أكّد أبي راشد أنه يجب تجميد كافة مشاريع السدود لأنها برهنت عن فشل والإستعاضة عنها بدعم البرك التي أثبتت أنها يمكن أن تلبّي المزارعين.وفي ما يلي الحلول التي طرحها:1- الينابيع القريبة من بيروت: أكثر من 70% من مياه بيروت الكبرى تأتي من نبعي جعيتا والقشقوش لكن منشآت النبعين قديمة، ويصل الهدر مثلا في قناة جر المياه من نبع جعيتا لمحطة ضبيه الى 30%. يمكن زيادة التغذية من نبع جعيتا من خلال تأهيل منشآته ووقف الهدر في القناة.2- المخازن الجوفية: يصل معدل التغذية الطبيعية للمياه الجوفية في لبنان الى 53% من إجمالي المتساقطات بسبب طبيعة الارض الكارستية التي تسمح بتسرّب المياه وهناك مخازن جوفية ضخمة قريبة من بيروت، لكنا عرضة لسوء الإدارة وفوضى الآبار. لذا يجب على الدولة وضع خطّة للآبار وتنظيم الاستخراج وتفعيل المراقبة.3- إعادة تأهيل شبكة التوزيع: يصل الهدر فيها الى 40% أي ما يعادل 42 مليون متر مكعب سنوياً بسبب الإهتراء والتعديات لذلك يجب إعادة تأهيل الشبكة وضبط التعديات عليها.4- مياه الأمطار: تستقبل بيروت الكبرى حوالي 825.5 ملم من الأمطار سنوياً لكن المياه تذهب هدراً وتفيض في الطرقات. يمكن تجميع هذه المياه في خزانات للاستفادة منها.5- حلول إضافية: يمكن خلال فصل الشتاء إعادة تغذية الطبقة الجوفية عبر إنشاء آبار لحقن المياه الفائضة في الأرض. يمكن حقن 110 مليون متر مكعب من المياه سنوياً في محيط بيروت الكبرى. كما يمكن جعل أرض المدينة أكثر نفاذاً للمياه من أجل إعادة تغذية الطبقة الجوفية عبر اعتماد أرضيات نفيذة في الطرقات والساحات وزيادة المساحات الخضراء .