إنه 31 تشرين الأول 2022، اليوم الأخير من “عهد” سيذكره التاريخ، بعدما حفر في ذاكرة اللبنانيين عميقًا، وكاد يغيّر “وجه” البلد عن بكرة أبيه، “عهد” شهد كغيره محطّات صعود وهبوط كثيرة، ولكنّه شهد معها العديد من “الكوارث والمآسي”، من انفجار مرفأ بيروت المروّع، الذي لا يزال ذوو ضحاياه ينتظرون العدالة، إلى “الانهيار الاقتصادي” الذي لا يزال اللبنانيون بمختلف فئاتهم وانتماءاتهم، يدفعون ثمنه دونما تمييز.
بالموازاة، شهد “العهد” على العديد من المحطات “المفصليّة” التي ستكتب فصولاً من التاريخ، بلا شكّ، من حراك 17 تشرين الأول 2019، الذي كاد يرتقي لمستوى “الثورة”، ولو أنّها ضُرِبت في مهدها، إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، الذي من شأنه أن يضع لبنان في مصاف الدول المنتجة للغاز والنفط، وبينهما انتخابات نيابية جرت وفقًا لقانون جديد أدخل النسبية للمرّة الأولى في تاريخ البلاد، ولو اعتبرها كثيرون “مشوّهة”.
لكنّ ما سيكتبه التاريخ حتمًا عن هذا “العهد”، عطفًا على كلّ ما سبق، يبقى في “نهايته” التي اختار الرئيس ميشال عون أن تكون “غير مألوفة”، حين غادر القصر الجمهوري قبل أكثر من 24 ساعة من انتهاء ولايته، معلنًا توقيع “مرسوم” يقضي باعتبار الحكومة التي يفترض أن تستلم الصلاحيات الرئاسية، في حال الفراغ “المحتّم”، مستقيلة، موحيًا بترك البلاد أمام “فوضى دستورية” سبق أن بشّر بها بعض المحيطين به في الأيام الأخيرة.
مراجعة نقدية لا بدّ منها
يتّفق مؤيدو “الجنرال” وخصومه على أنّ ولاية السنوات الستّ يجب أن تخضع في المرحلة المقبلة لـ”مراجعة نقدية”، ولو أنّ الفريقين يختلفان في “مقاربة” هذه المرحلة، بين من يعتبر أنّ الرئيس ميشال عون “دفع ثمن” تراكمات من السياسات التي لا يتحمّل مسؤوليتها بالضرورة، ومن يرى أنّه “أخفق” حين دخل المنظومة السياسية، واختار أن يصبح جزءًا منها، عوضًا عن مشاريع “الإصلاح والتغيير” التي لطالما وعد بها مناصريه.
يذهب مؤيّدو “العهد” بعيدًا في “دفاعهم” عن تجربة “الرئيس القوي”، كما يصفونه، فهو برأيهم أسّس لـ”عرف جديد” في رئاسة الجمهورية، بعدما كانت حكرًا في السابق على من يقفون في “الوسط”، ويحتكرون اللون “الرمادي”، لكنّهم لا ينفون وقوع “الإخفاقات” التي يعزونها إلى ما يعتبرونها “حصارًا”، بل “مؤامرة كونية” تعرّض لها رئيس الجمهورية، بسبب مواقفه المعروفة، ووقوفه بشكل خاص إلى جانب “حزب الله” والمقاومة.
لكنّ “نظرية المؤامرة” هذه تبدو مرفوضة شكلاً ومضمونًا، بالنسبة إلى آخرين، ممّن يعتبرون أنّ عون، الذي بدأ في الأيام الأخيرة باستعادة صورة “جنرال الرابية”، وكأنّ الولاية الرئاسية لم تكن، خيّب آمال مؤيّديه قبل خصومه، حين تقاعس عن الوفاء بوعوده، فتمسّك بـ”المحاصصة”، وضيّع أكثر من نصف عهده على ما يشبه “الفراغ”، قبل أن يرمي بكرة المسؤولية على الآخرين، بموجب شعار “ما خلّونا”، الذي عاد ليتنصّل منه قبل أيام.
ماذا بعد؟
لكن، قبل الشروع في هذه “المراجعة الذاتية”، التي يبدو “عونيّون” مقتنعين أكثر من غيرهم بوجوب القيام بها بكلّ شفافية، بعد “الخيبات” التي أفرزها هذا “العهد”، بمعزل عن خلفيّاتها الحقيقية، يبدو أنّ النهاية التي ارتأى عون أن تكون “غير مألوفة” لعهده، ستفرض نفسها على “أجندة” المرحلة المقبلة، في ظلّ مخاوف من “تداعيات” المرسوم الذي أصدره عون، والخطوات التي يمكن أن تعقبه، على غرار انسحاب بعض الوزراء من الحكومة.
يقول العارفون إنّ “المرسوم” بحدّ ذاته لا ينبغي أن تكون له أيّ تأثيرات أو تداعيات، باعتبار أنّ الخبراء الدستوريين يعتبرونه “لزوم ما لا يلزم”، إذ إنّه لا “يخترع البارود”، وإنما “يؤكد المؤكد”، فالحكومة تُعتبَر مستقيلة حكمًا بمرسوم أو من دونه، بموجب الدستور الذي ينصّ على تحوّلها لهذه الصفة، بنتيجة انتخاب برلمان جديد، لكنّها تبقى بموجب الدستور أيضًا، مخوّلة بتصريف الأعمال، ريثما يتمّ تشكيل حكومة جديدة، وهو الشرط الذي لم يتحقق بعد.
لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه، وفقًا للعارفين، يتعلق بما يمكن أن يقدم عليه “التيار الوطني الحر” بعد، خصوصًا أنّ رئيسه الوزير السابق جبران باسيل يصرّ على أنّه “لن يسكت” على عدم تشكيل حكومة جديدة قبل انتهاء ولاية الرئيس منتصف هذه الليلة، علمًا أنّ كلّ الوقائع والمعطيات تؤكد أنّه من “عرقل” إنجاز هذا التشكيل، بإصراره على فرض “الشروط” على رئيس الحكومة المكلف، الذي أبدى انفتاحه وقام بواجباته الدستورية منذ اليوم الأول.
بمعزل عن محاولة البعض ابتداء “فوضى دستورية” لا أساس لها على أرض الواقع، وفق ما يقول المتابعون، ثمّة من يتوقف عند تصريحات سابقة لرئيس “التيار الوطني الحر” قال فيها إنّ “أيّ حكومة أفضل من لا حكومة”. واستنادًا إلى ذلك، يسأل هؤلاء: “لماذا لا يقرن أقواله بالأفعال، فتتشكّل الحكومة عندها قبل منتصف هذه الليلة، وفقًا للصيغة التي سبق أن قدّمها رئيس المكلف لرئيس الجمهورية، وتُحَلّ كلّ الأزمة المفتعلة؟”.