كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
غريس راشد. فتاة لا تتوقف عن الحلم. فتاة لبنانية الجذور قذفت أزمات لبنان، التي لا تنضب، والديها الى الغربة، الى أستراليا، ليؤسسا عائلتهما هناك. من عبرين البترونية الى سيدني الأسترالية مسيرة إعتقداها آمنة، سالمة، ساكنة، هادئة، رغيدة، شكّلا فيها عائلة من ثلاث بنات: غريس، ربيكا وإيزابيل. وفي ليلة 30-31 تشرين، في ذكرى الهالوين، إنقلبت كل الحكاية. إنقلب العمر رأساً على عقب. ليلة رحلت فيها أميرة البيت غريس وكل شيء أصبح بعدها بطيئاً ساكناً فتوقفت عقارب الساعة وأصبحت الثواني جارحة تحرق.
قلبا الوالد راشد راشد والوالدة جوان راشد يحترقان. إنهما يناديانها: غريس غريس… وينتظران سماع صوتها. هما لا يزالان بعد ثلاثة أيام على رحيلها ينتظران بحرقة أن تجيب. وكيف لا، وموت الأحبة أشدّ أنواع الألم قسوة. هذا النوع من الموت لا يقتل صاحبه فقط بل يهدّ كل أهل البيت. صحيح أن الموت هو الموت ولا مفرّ منه لكنه مؤلم مؤلم حتى النخاع.
ليلة الموت
كل عبرين، البلدة الواقعة في قلب قضاء البترون في محافظة الشمال فجعت بموت إبنة راشد وجوان الكبرى. هي الإبنة الجميلة المليئة بحماسة هائلة، التي تجعل من ينظر في عينيها يبتسم، ولدت في سيدني وكبرت في سيدني واستمرّ لبنان وعبرين في بالها وقلبها وابتسامتها. جدتها إيفون صامتة ساكنة مفجوعة. فكم هو صعب على جدة أن ترثي حفيدة. هي قالت كلمتين فقط: أريد أن أقيم لها، لغريس، لحياتي، عرساً في عبرين. وهذا ما سيتمّ في كنيسة مارشربل في عبرين التي صلّت فيها في آخر زيارة لها الى لبنان، قبل ثمانية أعوام، وركعت تحت أقدام قديس الكنيسة وقالت: أحبك، اصلي لك، أعبدك.
غريس راشد كانت في الثلاثين من تشرين، ليلة الهالوين، في عاصمة كوريا الجنوبية سيول. أرادت وهي المولعة بالروايات والأساطير أن تحيا تلك اللحظة في احتفال كبير يقام هناك. ارتدت تاجاً وتزينت باللؤلؤ المزيف وخرجت الى الإحتفال. كان يرافقها صديقها نات تايفينيني وهو أسترالي، مولود في سيول. كان الفرح يغمر الجميع. هي ليلة الهالوين، ليلة تحكى فيها أساطير كثيرة. ليلة يحبها الشباب. كان العدد كبيراً جداً. مئة ألف وأكثر. وفجأة حصل هرج ومرج ولم يعد أحد يدري ماذا يحصل. إختنق المئات. ومن كانوا أقصر من سواهم عانوا أكثر. غريس لم يحالفها طولها لتنجو. راحت تتطلع نحو الفضاء، نحو السماء، وهي تختنق. كثيرون مثلها. لم تعد تتمكن من التنفس. راحت تختنق بعينين مفتوحتين خائرتين تنشدان «نفساً». صرخ صديقها كثيراً طالباً المساعدة. بكى كثيراً. وراح الجموع يتهاوون مثل السلسلة، مثل حجارة الدومينو، في وقتٍ إستمر كثيرون في التقاط اللحظة، غير مميزين بين الواقع والخيال. لحظات لا يتمناها أحد. ماتت فيها غريس، ومئة وخمسون من المشاركين وأكثر، إختناقاً.
غريس درست العلاقات العامة والإنتاج والإخراج في جامعة التكنولوجيا في مدينة سيدني وبدأت تشقّ منذ آذار الماضي دربها في عالم إنتاج الأفلام في شركة Electric Lime. نتابع صورها. نتابع حساباتها على السوشيل ميديا و»تيك توك» وإنستغرام. هي تروي في كل صورة وتسجيل وكلمة حكاية. هي تحمل الجنسيتين اللبنانية والأسترالية وتفتخر بالإثنتين. عمتها رندا رزق في ذهول وتعتذر عن الكلام. أما عمها حنا فيقول: كانت تتصل بي يومياً واتساب وتفتح فيديو كول. مُحبّة هي غريس. جالت في كل العالم وهي بعد يافعة. رأيناها تنتقل بين أستراليا والبرازيل واليابان وأميركا. وموتها أدمى قلوبنا، ونحن ننوي إقامة قداس وجناز لها في كنيسة القديس مار شربل الذي تحبّ.
مأتم غريس راشد سيكون اليوم ، بحسب أقاربها، دفنها وهي التي كانت تستعدّ، في صورة نشرتها، لوداع عامها الثالث والعشرين في 8 تشرين الثاني واستقبال سنتها الجديدة بأطنان من الأحلام. غريس لم تفكر بالموت أبداً ولم تنتبه أننا، جميعاً، على كفّ القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب شيئاً.