كتب نقولا ناصيف في ” الاخبار”: بانقضاء اسبوع على شغور رئاسة الجمهورية بدأ التطبّع مع المرحلة الجديدة، غير المعروفة المدى، يغلب على طبع يوميات السجالات والمناكفات والتناحر. استقرت المعادلة الجديدة كأمر واقع على تسليم الافرقاء جميعاً بتولي حكومة تصريف الاعمال صلاحيات رئيس الجمهورية مذ خلا المنصب، دونما ان تمارسها بالفعل. ذلك ما لم يحدث في سابقة 2014 – 2016.
احتاج تثبيت المعادلة هذه – وهي المرة الاولى يشهدها لبنان – الى اوسع مروحة من التوافق السياسي في اكثر من اتجاه الى ان رضي بها المعنيون في السر والعلن. الى ان يُنتخب رئيس جديد للجمهورية، يتعيّن على الحكومة المستقيلة ان تكتفي بتصريف الاعمال في النطاق الضيّق، كما لو انها كذلك في ظل وجود رئيس الجمهورية. لا تجتمع الا استثنائياً في الظروف البالغة الخطورة. امام المجتمعيْن العربي والدولي هي واجهة الشرعية الدستورية الموقتة والانتقالية الى حين انتخاب الرئيس. في الداخل اللبناني لا يعدو دورها الجديد تقييدها بالنطاق الضيق لتصريف الاعمال سوى محاولة فك اشتباك بين القائلين بتوليها صلاحيات الرئيس كاملة وممارستها كاملة كذلك في غيابه مستعيدة كيانها الدستوري الكامل امام مجلس النواب بفعل انصياعها الى المادة 62 من الدستور، وبين القائلين بتحريمها ذلك كله كونها مستقيلة لا تملك سوى تصريف الاعمال. انتهى المطاف بالرأيين الى حل وسط ما دام ليس في الامكان الاستغناء عن وجودها: توليها صلاحيات رئيس الجمهورية من دون ممارسة اي منها ما خلا الظرف القاهر.
ليس القائلون بالرأيين هذين الا طرفا الانقسام الداخلي. كذلك لم تنشأ التسوية هذه سوى لتبرير عدم الذهاب الى حكومة جديدة لم يقتصر الاعتراض على تأليفها على الرئيس المكلف سابقاً نجيب ميقاتي يؤيده الرئيس نبيه برّي والافرقاء المصطفون وراءهما. قال بمعارضة تأليفها ايضاً البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي لسبب مغاير هو ان ابصار حكومة جديدة النور بصلاحيات كاملة يطيل امد الشغور الرئاسي، ويُبطّىء انتخاب رئيس جديد للجمهورية الى ان يأتي الاوان المناسب. الفرنسيون بدورهم لم يتحمّسوا لحكومة جديدة مفضلين للسبب نفسه ابقاء القديم على قدمه. على طرف نقيض مَالَ برّي وميقاتي الى تنشيط عمل حكومة تصريف الاعمال بعقد اجتماعات متتالية لمواجهة تفاقم الازمات الداخلية. لاجراء كهذا اكثر من مآل وتفسير:
1 – لم تعد السابقة تقتصر على تولي حكومة تصريف اعمال صلاحيات رئيس الجمهورية فحسب، بل فرّخت منها سابقة مكمّلة لها هي انتقال الصلاحيات تلك اليها من دون ان تمارسها. المقتضيات السياسة تغلبت بذلك على المقتضيات الدستورية. توجب المادة 62 انتقال الصلاحيات على اطلاقها، وتبعاً لذلك ممارستها على اطلاقها كذلك بانعقاد جلسات مجلس الوزراء وقيامه بالواجبات الملقاة على عاتقه وتحمّل المسؤوليات. لم تحدد المادة 62 مواصفات الحكومة المفترض انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية اليها، عاملة او مستقيلة. الا ان وصولها الى يوم شغور المنصب يحمّلها وزر صلاحيات الرئيس اياً يكن واقعها الدستوري لحظتذاك.
2 – كانت المرة الاولى يُدعى مجلس النواب الى اتخاذ موقف كالذي اصدره الخميس المنصرم (3 تشرين الثاني)، وإن توصية، بالطلب من الحكومة تصريف الاعمال في نطاقها الضيق فحسب. لم يرمِ الموقف، بعدما احتكم اليه الرئيس ميشال عون قبل نهاية ولايته ثم ميقاتي، سوى الى فك اشتباك الرئيسين مع ان اولهما مغادر منصبه وثانيهما باق فيه.المفارقة ان ما قَبِلَ به برّي لميقاتي باصدار التوصية هذه، رفضه عام 2021 لسلفه الرئيس حسان دياب. حينذاك، بغية التخلص من الالحاح عليه بدعوة حكومته المستقيلة الى الاجتماع تحت وطأة تسارع الانهيار، ذهب دياب الى برّي وطلب منه العمل على اصدار البرلمان بياناً يدعو حكومة تصريف الاعمال الى عقد اجتماعات لمجلس الوزراء، رامياً الحصول على تغطية مجلس النواب الدعوة هذه. للفور رفض برّي لسبب وجيه طبيعي هو ان فصل السلطات المنصوص عليه في مقدمة الدستور لا يجيز لمجلس النواب التدخل في اختصاص هو في صلاحيات السلطة الاجرائية. يملك ان يراقب اعمالها ويحاسبها عندما تمثل امامه، وان يسحب الثقة منها، لا ان يطلب اجتماعها او يوفر لها المسوغ الدستوري او القانوني كي تنعقد او يرغمها على ما ليس لها ان تفعل. في جانب من الرفض، الى الحجج الدستورية التي تسلّح بها رئيس المجلس، علاقته المتردية بدياب. كلاهما، دياب وميقاتي، طلبا تدخّل البرلمان. لم يُصغَ الى الاول واستجيب الثاني.
3 – ليست رسالتا الرئيس السابق للجمهورية ورئيس حكومة تصريف الاعمال وحدهما حفّزتا مجلس النواب على اصدار التوصية تلك في معرض تلاوته رسالة عون والاستماع الى وجهة نظر ميقاتي. كانت ثمة مساع يجريها نواب استبقوا انعقاد الجلسة بطلب تحديد مجلس النواب – وهي ليست اصلاً مهمته – بضعة قيود يفرضها على الحكومة المستقيلة لمنعها من التفلت في تصريف الاعمال او مغالاتها في استخدامها على نحو ما فعلت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عامي 2007 – 2008 وفعلته من بعدها حكومة الرئيس تمام سلام بتوافق وزرائها جميعاً.قبل الوصول الى الجلسة لم يتردد النواب هؤلاء في استمزاج آراء قضاة في القيود تلك، ما لبثوا ان عادوا ادراجهم. يملك مجلس النواب ان يوصي ويتمنى ليس الا. لأنها حكومة مستقيلة حكماً تبعاً للدستور – وإن متولية صلاحيات رئيس الجمهورية – تصعب مراقبتها ومن ثم محاسبتها كما طرح الثقة بها مجتمعة كما بأي من وزرائها. ثم ما بعد ذلك؟