لم يكُن المُؤتمر الوطنيّ الذي أُقيم قبل أيام في ذكرى “اتفاق الطائف” سوى مُقدّمة لتثبيت وقائع سياسيّة راسخة في أكثر من اتّجاه، وقد تجلّى ذلك من إشاراتٍ عديدة برزت في سياق المُداخلات التي جاءت في المؤتمر أو عبر الحضورِ الذي ضمّ مختلف الأحزاب والأطياف السياسيّة.
ما يُمكن قوله هو أنّ المؤتمر أكّد أنّ الأمور في لبنان لن تتجهَ نحو أيّ انفلاتٍ أمنيّ، والدليل على ذلك إصرارُ دول القرار على التمسّك بوثيقةٍ “الطائف” التي أنهت الحرب الأهلية قبل 33 عاماً.
هنا، وأكثر من أي وقتٍ مضى، تبرزُ الحاجة إلى “الطائف” لضمان السلم الأهلي، وما يبدو هو أنّ تحرّك المملكة العربيّة السعودية السّريع والعاجل لتثبيت الإتفاق المُشار إليه، قد جاءَ استناداً إلى رغبةٍ واضحة في إبعاد شبح الاقتتال عن الداخل اللبناني، وهنا المُفارقة الكبرى التي ثبّتت نفسها بقوّة لدى الخصومِ والحلفاء.
من دون أدنى شكّ، قد يكونُ مؤتمر الأونيسكو الأخير بمثابةِ عودةٍ صريحة وثابتة وواضحة للسعودية إلى لبنان، إذ من خلاله يمكن تثبيت الدور السعودي الذي يتّصلُ ببناء الدولة وتكريس مُنطلقات السّلم الأهلي بعيداً عن تكتلات المحاور. وحقاً، فإنّ مؤتمر ذكرى الطائف حملَ رداً على ادعاءات عديدة تزعمُ أن السعودية كانت ترغب في إفتعال حرب أهليّة داخل لبنان. ولو كان ذلك حقاً، لما كانت المملكة سعت إلى تثبيت وثيقة أنهت حرباً وثبّتت عيشاً مشتركاً وفتحت الباب أمام التفاهمات. لو كانت السعودية تريدُ الحرب بشكل فعلي، لكانت عزّزت انقسامَ الأطراف السياسية اللبنانية، وما ساهمت في جمعهم ضمن مؤتمرٍ واحد يُثبّت فرص التلاقي رغم الانقسامات.
بشكلٍ أو بآخر، يُمكن اعتبارُ مؤتمر الطائف بمثابة طاولة حوارٍ غير مباشرة لجميع الأفرقاء، أساسُها التأكيد على مُعادلة الطائف في وجهِ كل معادلات التقسيم. كذلك، فإن المؤتمر الذي اهتمّت به دول أوروبية ومنظمات دوليّة، أكّد وجود لبنان في صُلب اهتمام السعودية ودول الخليج العربيّ، وبالتالي فإنّ الانفتاحَ الذي يجري سيكونُ مقدّمة لانتعاشٍ آتٍ.
وبمعزلٍ عن المضمون السياسيّ المُرتبط بالمؤتمر، فإنّ الرسائل الأمنيّة كانت الأكثر بروزاً. هُنا، يمكُن اعتبار مؤتمر الطائف بمثابةِ تأكيدٍ لمعادلة السّلم الداخلي، إذ أن تأكيد اتفاق الطائف كمرجعية أساسية يعني أنّ كلّ ما يمكن أن يؤدي إلى تدهور أمنيّ سيجري منعه فوراً، وبالتالي فإن القرار الدولي يتمحور حول تثبيت الأمن في لبنان كأولوية قصوى وسط الأزمة الاقتصادية القائمة.
حُكماً، فإنّ تلك الرسالة ارتبطت ضمنياً بتأكيدٍ أممي على التمسّك باستقرار لبنان وقد تم استتباعُ ذلك بمواقف أميركيّة عديدة أكدت على السياق نفسه. وإضافة إلى ذلك، فإنّ رسائل الدعم التي جاءت من البابا فرنسيس خلال زيارته الأخيرة إلى البحرين أو التصريحات المُساندة للبنان خلال القمة العربيّة في الجزائر وقمة المناخ المنعقدة حالياً في مصر، كلها تصبّ في خانة تعزيز استقرار لبنان الذي سيكونُ محصناً ضدّ أي هزات أمنيّة.
أما على الصعيد الاقتصاديّ، فإنّ ما أفرزهُ مؤتمر الطائف كشفَ عن أن انفتاح المملكة العربية السعودية الكبير باتجاه لبنان ما سيؤدّي إلى انفكاكِه من العزلة العربيّة، وبالتالي سيكونُ بدايةً لتقاطعٍ اقتصادي جديدٍ يرتبطُ بمشروعات نهضة لن تحصل بمعزلٍ عن الاصلاحات التي تُطالب بها السعوديّة مراراً مع المجتمع الدوليّ المواكب للبنان.
في خلاصة القول، قد يكون مؤتمر الأونيسكو الخاص بـ”الطائف” الطريق الأساس لبداية عربية جديدة مع لبنان بعد عهد رئيس الجمهوريّة السابق ميشال عون، كما أنه قد يكونُ مقدّمة لتسويات مقبلة في الداخل، وعنواناً لتقاطعٍ عربيّ طارئ لا يُمكن فصله عن الأحداث العالمية الطاغية.. وهنا، للحديث تتمّة..